منذ أمد بعيد وخواطري مشغولة بتقصيرنا في حق فئة من أعظم فئات مجتمعنا إن لم تكن أعظمها على الإطلاق، تلكم هي فئة الأمهات اللواتي تحلين بكريم الخصال وعشن وجاهدن وأسهمن إسهامات كبيرة داخل أسرهن وخارجها دون أن يلتفت إليهن إعلام ودون أن يحتفي بهن مجتمع. تذكرت هذا التقصير لما بلغني نعي الأميرة سلطانة بنت تركي بن أحمد السديري التي وافاها الأجل بعد معاناة طويلة مع المرض تغمدها الله برحمته وأسكنها الفردوس الأعلى. والأميرة سلطانة رحمها الله -لمن لا يعرفها- زوجة الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض ووالدة الكبار من أولاده، وبنت الفارس والشاعر وأحد نبلاء العرب الأمير تركي بن أحمد السديري رحمه الله. كمثيلاتها من الأمهات الكبيرات عاشت الأميرة سلطانة حقبتي الضيق والسعة من تاريخ المملكة فلم ينل شظف العيش من جلدها ولا بدل الرخاء من شيمها. كانت الأولوية المطلقة في حياتها لأسرتها دون أن تتخلى عن واجباتها الاجتماعية -رحمها الله- وقد كانت الثمرة الكبرى لذلك أن طاب الحصاد. عرفت أبناءها بدرجات متفاوتة من القرب والبعد، وكان بيني وبين بعضهم اختلافات في بعض وجهات النظر، ولكنني أشهد لهم جميعاً كما يشهد لهم من يعرفهم حق المعرفة أنهم جميعاً على مستوى رفيع من التهذيب وكرم الخلق والحرص على ما يحفظ لأسرتهم مكانتها في قلوب الناس، قبل كل ما حققوه من نجاحات في حياتهم العلمية والعملية. كانت الأميرة سلطانة -رحمها الله- قلباً رؤوماً سكنه كثير من الناس خاصة الضعفاء والمساكين، كما كانت في الوقت نفسه قلباً كبيراً استطاع أن يحتضن رجلاً بحجم ومكانة سلمان بن عبدالعزيز. ولئن كانت محاسنها -رحمها الله- أكبر وأكثر من أن يفيها حقها مثل هذه العجالة، فإن من أعظم محاسنها -رحمها الله- عزوفها عن الشهرة والأضواء ومقتها للتفاخر والمكابرة، فلم تشاهد في عاصمة من عواصم العالم ملفتة للأنظار، ولم تزحم مناسبة أو حفلاً بموكب أو باستعراض نفوذ أو اقتدار مالي. بل على النقيض من ذلك كانت بتواضعها وبساطتها ومحافظتها على سمتها محل إجلال الجميع وإكبارهم. فقدت -رحمها الله- اثنين من فلذات كبدها وهما في أوج شبابهما وملء السمع والبصر فما جزعت ولا سخطت وإنما رضيت بقضاء الله وقدره واحتسبتهما عند خالقها وخالقهما، نسأل الله عز وجل أن يقر عينها بهما في جناته. كانت باختصار شديد أماً كبيرة في سماتها وكل جوانب حياتها، وما أصدق قول الشاعر الجواهري عليها حين قال في رثاء زوجته: لم يَلْقَ في قلبِها غِلٌّ ولا دَنَسٌ لهُ مَحلاً، ولا خُبْثٌ ولا حَسَدُ ولا تَذِلُّ لِخَطْبٍ حُمَّ نازِلُهُ ولا يُصَعِّرُ منها المالُ والوَلَدُ إن مثيلات الأميرة سلطانة -رحمها الله- في مجتمعنا جديرات بأن يعرف قدرهن وأن ينلن من التكريم المكانة التي تليق بهن، فهن بعد توفيق الله عز وجل من يقفن وراء كثير مما نعتز به ونفاخر. يقول الجواهري في مطلع قصيدته المشار إليها، وما أصدق قوله على الأمير سلمان بن عبدالعزيز: في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أَجِدُ أهذهِ صَخرةٌ أم هذهِ كَبِدُ رحم الله الأميرة سلطانة وأسكنها فسيح جناته وأنزلها منازل الصديقين والشهداء والصالحين، وجبر مصابنا جميعاً فيها، وأحسن عزاء الأمير سلمان بن عبدالعزيز وأسرته فيها وجعل البركة في سلطان وعبدالعزيز وفيصل وحصة وبقية الأبناء والبنات، والله المستعان في كل حال ،(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).