لكل مجتمع شؤون تمثل محاذير يحرص أعضاؤه على صيانتها كجزء من الالتزام بالعقد الاجتماعي الذي يربط مكونات ذلك المجتمع، وكثير من هذه الشؤون تبلورت في صورة عادات وقيم وممارسات تكونت على مر العصور كإفرازات لتجارب وأحداث مر بها المجتمع أو فرضت عليه مقابل بقائه مترابطاً، وأصبحت تلك سمات للمجتمع يحرص أعضاؤه الحاليون على بقائها دون تغيير، وبغض النظر عما إذا كانت هذه السمات والعادات تمثل عائقا لتطور المجتمع فهي محل خلاف مزمن بين أعضائه فبعضها تحط من القيمة الاجتماعية لبعض أعضاء المجتمع أو تنتقص من حقوقهم أو تسفه معتقداتهم، وعلى مر العصور أصبح الحديث فيها محرجاً أو محظوراً. هذه السمات والعادات في نشأتها قديمة، حيث اكتسبت رسوخاً في الذهنية الاجتماعية, وباتت تمثل حماية فكرية لتفوق الفئة الغالبة في المجتمع، ونظراً لأن المجتمع لا يحسم خلافه حول هذه المسائل بصورة عملية، ومر بتجارب وظروف أجبرت مكوناته على الالتحام في سبيل العيش المشترك وجعلت من تلك الخلافات مواضيع مؤجلة النظر بصفة أزلية، وبات المجتمع على شبه إجماع بعدم الخوض فيها خوفاً من الفرقة بسببها، ومع ذلك ما برح المجتمع يتصرف ويتعايش على نهج مستوحى منها. هذا الوضع جعلها محظورة الكلام، وبات العقلاء التقليديون ينهون عن الحديث فيها خوفاً من الفرقة ومقالهم في ذلك أن «الخوض فيها استجلاب للفتنة والفتنة نائمة لعن الله موقظها»، إلا أن مفكرين آخرين يرون أن ترك تلك المسائل دون حرث ونكث في مضامينها وترويضها لتناسب واقع المجتمع وطبيعة التحديات هو من باب ترك الفتنة تطبخ على نار هادئة حتى تنضج فلا يكون بمقدور المجتمع علاجها إلا بالانقلاب على نفسه ومقالهم «إن المجتمعات التي تقوم على نهج ينطوي على حظر للكلام في شؤون مهمة أو كثيرة هي في الواقع مجتمعات هشة وترابطها أشبه ما يكون بالبيضة، حيث يبدو قشرها صلباً متجانساً ولكنه يخفي بداخله جوفا سائلا مائعا، فما إن يتلقى ذلك المجتمع ضغوطاً حقيقية إلا وينقلب على نفسه منسحقاً تحت وطأة تناقضه واختلافه». العقلاء التقليديون مشفقون على الأمة من الخلاف والانقسام, فقناعتهم بأن الزمن كفيل بإذابة الخلافات، ولا شك أن هذا الظن غير واقعي فهو أشبه بمن يدير ظهره للسبع حتى لا يراه، إن تبني فكر مواجهة الأمور الخلافية بنقاشها لا بقصد حسمها لطرف على حساب الآخر ولكن لتبيين ماهيتها وتأصيلها وتنسيقها مع الإطار العام للقيم السامية للمجتمع وتفاعل المجتمع حولها ليستكشف مدى أهمية الاختلاف أو الاتفاق حول مضامينها، هو التصرف الذي لابد أن يبديه العقلاء في المجتمع والمؤثرون من المثقفين والمسؤولين، فمحظورات الكلام هي تلك المواضيع التي تشغل ضمير الأمة، وهي من الأهمية بحيث يكون طرحها للعامة دون تأطير فكري سليم أمر يمس الأمن الوطني، ولنا في تجارب الأمم الأخرى عبرة فلو أن المجتمع الألماني لم يسكت عن تنامي النازية والفاشية لما أجبر على تجرع هزيمة وعار لحق به حتى هذا اليوم، ولو أن دعاة الحقوق المدنية في الولاياتالمتحدة صمتوا في وجه العنصرية الاستعلائية لدى غالبية البيض الأمريكيين لما رأينا اليوم رئيساً أسود لأمريكا. إن أهم تلك الأمور المحظور الكلام فيها لدينا تتمثل في ثلاثة أمور أولها الاستعلاء القبلي، حيث يتفاضل بعض الناس على بعض، وهنا لا أرمي إلى «الانتقائية في النسب عند الزواج» فهي أدنى تجليات ذلك الاستعلاء ولكل حرية فيمن يستنسب لنسله، ولكني أهدف لذلك الاستعلاء الذي يتبلور في صورة نرجسية قبلية تجعل من صاحبها فاشي التصرف تجاه الآخرين. يعتقد بسيادة عنصرية له مبعثها الظن بسمو أصله عمن سواه فيميل إلى سلب الآخرين حقوقهم في الاحترام والمجاملة ويستبيح التعدي عليهم بالكلام الجارح أو يتمادى إلى ما هو أكثر من ذلك، أما الأمر الثاني فهو الانكفاء المناطقي، حيث يبرز في صورة استخفاف بقدر الآخرين من المناطق الأخرى وتعدي على حقوقهم في المساواة في الفرص في العمل والكسب والتصدي لما قد ينفع لهم. والأمر الثالث وأحسب أنه من أكبر المخاطر السكوت عنه وهو الخلاف المذهبي، والخلاف المذهبي فيما أرى قائم منذ مئات السنين ومن العبث الظن بإمكانية حسمه لطرف بمجرد فرض رؤية الطرف الأقوى، لذا لابد من التسليم بحقيقة الخلاف والتخلي عن جعل ذلك الخلاف ساحة صراع بين أتباع تلك المذاهب والعمل على تكوين مضمون جديد للنظر للتباين الطائفي يتمثل في الاتفاق على احترام حق الآخر في الاختلاف ومن ثم من أراد أن يبين معتقداً أو يبحث في شأن لإقامة حجة على قول دون تجريح أو تسفيه لمعتقد الآخر فذلك من باب إثراء العلم ولا شك أن فيه مصالح مرسلة للأمة والواجب أن يكون مكانه بيوت العلم والبحث في الجامعات والمراكز المتخصصة لا الساحات العامة والمجالس ومنابر المساجد فالمتلقون في تلك الأماكن خليط ممن يغلب عليهم عدم الكفاية في البت في تلك الأمور ويهتاجون بمجرد إلهاب مشاعرهم بذكر شواهد الخلافات الأمر الذي قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.