كعادته، يدخل عبد المحسن مجلسه بسرعة كبيرة، ويده في جيبه يقلب داخله مفاتيح جمعها في حلقات متصلة مُحْدثاً بذلك صوتاً عالياً، وباليد الثانية يمسك هاتفه، يستقبل مكالمة سليمان: يا أخي للمرة الألف وأنا أصف لك المنزل، كم مرة قلت لك إن شارعاً يفصل بين صيدليتين متجاورتين يجب عليك الدخول منه، ثم ينعطف بك الطريق في نهايته، وتجد منزلي الثالث يساراً.. يا أخي ليس وقت الانتقادات الآن.. مَنْ معك؟ .. حسناً أنا بالانتظار. يجلس عبد المحسن متفقداً تكييف المجلس وملتهياً بجهاز التحكم في التلفزيون شارد الذهن في مشهد نقلته قناة فضائية بتصوير أحد المواطنين في المظاهرات في تونس مضرجاً بالدماء، ووليد يكسر حاجز الصمت بالقرع على الباب النافذ للصالة حاملاً القهوة والشاي ولزوم الضيافة، وحين همَّ بالمغادرة سأله والده أين الماء؟.. فأجاب مغادراً بسرعة دون توقف.. عندك بالثلاجة.. لم يتعجب عبد المحسن من إجابة ابنه الأصغر، رغم أن الجميع قالوا إنه الوحيد الذي يشبهه في أبنائه الثلاثة، أثناء ذلك يرن الهاتف مجدداً.. نعم.. نعم.. توقف عندك، وأنا في طريقي لك. بعد قليل كان ثلاثة رجال يملؤون المكان (بصوتهم)، ثم زاد ذلك آخر الضيوف (ماطر) الصديق الذي لا يمكن أن يلتزم بوقت رغم أنه (عاطل) عن العمل، لكنه مشغول جداً ب(الفراغ). مَنْ هم هؤلاء؟ عبد المحسن صاحب المنزل.. رجل ممتلئ الجسم يميل إلى (السمنة)، يعمل مديراً لفرع أحد البنوك في الحي (الراقي) نفسه الذي يقطنه، وتركي موظف حكومي بمرتبة لا بأس بها، وبالتحديد مديراً لمكتب أحد المسؤولين، أما جميل فهو شاب لا يعرف كيف يلبس الثوب والكوفية، وهو محاضر بإحدى الكليات الأهلية، حين تشاهده كأنك أمام اسكتلندي فارع الطول. بعد نقاشات عقيمة في العتب والصخب.. قال تركي الذي لا يفرق بين جلوسه في مكتب الوزارة أو مع زملاء (الحارة).. يا أخي لو تتكرم علينا وتغير قناة التلفزيون إلى أخرى فقد مللنا من السياسة.. يرد ماطر مستهتراً دون أن ينظر إليه.. أي والله إنك صادق يا صاحب المعالي. بعصبية شديدة: آخر من يستهزئ أنت. يرد تركي.. في هذه الأثناء ينتفض جميل بأسلوبه الممزوج بالإنجليزية: بالعكس يا أخي اتركنا مع الأخبار حتى لا نكون خارج (التغطية) أو آخر من يعلم؛ فالأحداث تتوالد مثلما (الأرانب) في كل لحظة.. ويختم: أصبح الشريط الأحمر وكلمة عاجل لا تغادر هذه القنوات. يعيد ماطر توجيه تعليقاته الساخرة، ولكن هذه المرة باتجاه جميل ومخاطباً عبد المحسن: يا أبو منير بالله ألا يوجد نسخة (مترجمة) من جميل، وبالمناسبة يقولون إن الأفلام المترجمة بنقاء عال لا تتجاوز في سعرها خمسة عشر ريالاً. هنا ينفجر المجلس ضحكاً، وهذه المرة كان جميل أكثرهم ضحكاً؛ إنه أكثرهم تسامحاً مع الآخرين. عبد المحسن كعادته يحب أن يسيطر على أجواء النقاش فيقول إن الجميع بات يعرف السياسة ويتحدث فيها ويحلّل بل إن بعضهم يحلف ويقسم على ما سيحدث غداً.. ودون أن يسمع تعليق تركي (أو هكذا بدا له) يكمل: حتى عملاء البنك عندي يتحدثون في السياسة ساعة كاملة وفي شؤون حساباتهم خمس دقائق.. إنه وضع ممل، حتى أن أم منير استغنت عن المسلسلات التركية واتجهت لقناتي (العربية) و(الجزيرة). تركي موافقاً على رأيه: صدقت، وهذا حال المراجعين لدينا، وفي السوق وفي مناسباتنا العائلية وفي كل مكان.. يا أخي رائحة القتل بدأت تزكم أنوفنا، والجميع يتسابقون في نقل خبر المصائب لنا، وليتهم يكتفون بالنقل بل إن بعض المذيعين ينقل خبر القصف والقتل والضرب وابتسامة بطول رصيف الحوامل تعتلي وجهه. تسمحون لي بمداخلة.. يقول ماطر: أنا أكثركم قرباً من التلفاز بحكم (الفراغ)، وقد لاحظت أن الجميع يتسابقون لأخبار أكثرها تنتهي بنهاية ذلك اليوم.. لم تعد القنوات تهتم بالخبر الصحيح من المغلوط مع تسابق الأحداث، ثم إنني أحاول مع بداية كل نشرة أخبار أن أستمع لموجز الأنباء، بعدها أنتقل لقناة أخرى، بسرعة فأجد التباين الكبير في الأرقام وكذلك في اللغة التي تتعاطى معها القناة في هذا البلد أو ذاك، بعض البلدان طردت مراسلي الفضائيات فباتت الأخبار غير دقيقة.. ماطر يكثر من تعديل وضع عقاله دوماً حين يتحدث، غير آبه بنظرات (الشباب) المليئة بالتعجب والإعجاب، مكملاً: مثلما قال عبد المحسن قبل قليل فإن استديوهات الأخبار في القنوات الفضائية أصبحت (استراحات) لكل من هب ودب، وتخيلوا أنني شاهدت واستمعت لأحد المعارضين الليبيين أمس خمس مرات في خمس قنوات، وكل قناة تعطيه وصفاً مختلفاً عن الآخر، وحديثه أيضاً مختلف، ولم يكن ثابتاً سوى (ملابسه). هذه الحالة من النقاش حمَّست جميل للدخول في النقاش بطريقته التي يرى أنها حضارية، وتستفز زملاءه الذين يرون أنها (فلسفية)، فيقول: القنوات الإخبارية اليوم - وأقصد هنا العربية - في مخاض عسير للخروج من مأزق (الأدلجة) التي هي عليها منذ زمن، وربما من حساباتها السياسية المختلفة، ثم إن جميع البيوت اليوم لم تعد تهتم سوى بقنوات الأخبار التي استحلت اللون الأحمر وكلمة عاجل. لاحظ أنك كررت الجملة الأخيرة عشر مرات.. يقاطعه عبد المحسن.. لكن جميل يكمل دون اكتراث: المشكلة أن بعض القنوات الفضائية (تؤزم) المواقف، ولا تنقل الحقيقة كما هي، ثم إن أغلب الأخبار التي نشاهدها اليوم مبالَغ فيها، وتأخذ جانباً كبيراً من اللغة (الثورية) التي تُضخّم الأمور وتُصغّر الجبال. تركي يستلم دفة الحوار بعد أن سكب نصف كأس الشاي في حلقه ومعدلاً من جلسته (الرسمية): ألا تلاحظون أننا نلعن بعض القنوات الإخبارية، ونشاهدها ونحفظ عن ظهر قلب أسماء مذيعيها وفواصلها وحتى موسيقاها؟.. ألا تعتقدون بأننا متناقضون، أم أننا نكره الشيء ونسعى إليه؟ ثم إننا (سئمنا) من السياسة وأهلها التي أنستنا المسلسلات والبرامج الغنائية وحتى الإعلانات التجارية. ماطر كعادته مع تركي (مقاطعاً) ومستفزاً يستلم الحديث دون استئذان وقبل أن ينهي تركي فكرته: من منكم يعرف الإعلامي سامي كليب؟.. الجميع قالوا لا نعلم برؤوسهم نافين. مكملاً ماطر دون أن يهتم: سامي كليب هذا (مجرد) مذيع لبرنامج (زيارة خاصة) في قناة الجزيرة، تحدث أمس الأول عن السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط والأحداث الجارية، ثم تحول إلى أمريكا والاتحاد الأوروبي، ووصل إلى روسيا، ثم عاد إلى إسرائيل، وأعطانا في ساعتين حلولاً وانتقادات ووو.. لقد بات الجميع سياسيين ومعارضين وموالين. وقبل أن أنسى ففي رأسي تساؤل عجيب: من حسنات القنوات الإخبارية أننا صرنا نعرف البراغماتية والراديكالية والحكومة الانتقالية والمجلس والممانعة وغيرها من المصطلحات، يا إخوان من حسنات هذه الثورات التي تابعتها القنوات الإخبارية أننا بتنا نعرف أسماء المدن مثل بنغازي ومصراتة والبريقة وبانياس وأجدابيا ودرعا وغيرها. بحركة استئذانية من جميل طالباً الحديث من ماطر بينما تركي معلقاً: يا أخي تحدث ولا تهتم له.. يسكت ماطر ويتحدث جميل: فكرتي لم تصل كما أريد.. لا أريد أن ألغي أهمية القنوات الإخبارية بل إنها اليوم تعمل بطاقة احترافية عالية، واستشهد بها الغرب، ووثقت بها الشعوب، لكن في المقابل فإن بعض القنوات التابعة للأحزاب والمعارضات لا تستحق (الاحترام)؛ لأنها لا تخاطب سوى عقول التابعين لها، وتُضحك عليها الآخرين.. إنها بؤرة للكذب، متجاهلة أن السياسة لا تقطع خطوط العودة فتجد هذه القنوات (متلونة) بطريقة استهزائية. هذا النقاش امتد لساعتين لم ينتبه لهما الحاضرون، وشربوا خلاله لترات كثيرة من القهوة العربية والتركية والشاي، ولم يدخروا جهداً في تنظيف أطباق التمر، لكن النقاش (أعجبهم) رغم ما شابه من الصخب والمقاطعات التي اعتادوا عليها مذ كانوا صغاراً، وما قطع حديث مجلسهم (وأغلب حديث مجالسنا) سوى دخول وليد ابن عبدالمحسن يستأذن والده في الخروج، وقبلها قال إن أمه تريد منه الحضور إلى الداخل: غاب أبو منير لحيظات ثم دعا ضيوفه إلى طاولة العشاء، وكانت تحتوي على مقبلات شامية ولحمة مطبوخة بالطريقة المصرية وطبق الكسكسي التونسي ومعصوب يمني وفاصوليا بالكرشة على الطريقة الليبية.. أثار هذا التنوع إعجاب الضيوف، وقبل أن يهمّ أحدهم بالكلام قال عبدالمحسن: أم منير سمعت صوتنا وربما سمعنا الجيران فأرادت بحنكتها أن تعطيكم من كل ثورة (لقمة). وقبل أن ينهي مشروع تقديم ضيافته قال تركي مداخلة ذكية: المرة المقبلة أرجو أن تجعلها أرزاً إيرانياً ممزوجاً بالزعفران والبختياري أو الزيريشك بولو بامورغ، ورد عليه الجميع بكلمة: آآآآآآآآآآآمين.