الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، وبعد: تمر علينا في هذا الوطن الغالي، والمملكة الغالية في السادس والعشرين من شهر جمادى الآخرة ذكرى عزيزة غالية على قلب كل مواطن شرف بالانتماء لهذه البلدة الآمنة، كيف لاوهي ذكرى ذات أبعاد شرعية ووطنية، وتحمل في طياتها منجزات نوعية هيأ الله لها هذا الرجل الإنسان، والملك الفذّ خادم الحرمين الشريفين الملك-عبد الله بن عبد العزيز، اختصر فيها مسافة الزمن، وتحدثت بمنجزاته الركبان، وحقق لوطنه وشعبه ما تعجز لغة الإحصاء أن ترصده، نعم إنها ذكرى بيعة إمام المسلمين، خادم الحرمين الشريفين، المليك المفدى، عبد الله بن عبد العزيز آل سعود -أمده الله بعونه، وأدام عليه نعمه-؛ لأنها تعد امتدادًا تاريخيًا لهذه الدولة المباركة التي تأسست على نصرة الكتاب والسنة، والقيام على أصل الأصول، وأساس الأمن، وأوجب الواجبات: توحيد الله جل وعلا بصورته الصافية النقية كما نزلت في عهد رسول- الله صلى الله عليه وسلم- ، حامية هذا الأصل مما يشوبه ويكدره، محققة لجوانبه، محاربة كل مظاهر الشرك والبدع والانحراف، ومع تمسكها بهذه الثوابت العظيمة التي هي أساس العز والتمكين، وسبب كل خير عميم إلا أن ذلك لا يمنعها من التعامل مع متغيرات العصر، وتفاعلات الواقع، آخذة بكل سبب يؤدي إلى النهوض والارتقاء، وبلوغ الريادة والعالمية، هذا المنهج الرشيد، والمسلك السديد هو ما قامت عليه دولة التوحيد ولاسيما في هذا الدور الذي أقامه وشيد بناءه الملك المؤسس الباني المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيب الله ثراه وجعل الجنة مأواه-، واستمر عليه أبناؤه البررة، متفاعلين مع قضايا العصر وتجدد الحوادث، وتعقيدات الواقع، إنني أقول وأنا أستشعر مرور ست سنوات على ذكرى بيعة مليكنا المفدى وقد مرت كلمح البصر، إنها سنوات سعد وخير وبركة على هذا الوطن الآمن ومواطنيه، ولست هنا بصدد رصد الإنجازات الملكية لخادم الحرمين الشريفين أو حشد المقام بأرقام وإحصاءات مع أهميةكل ذلك، بل إن رصدها وقراءة متأنية في أبعادها لمما يستحق الدراسة, ولكني أردت أن تكون هذه الأسطر تعبيرًا صادقًا عن مشاعري التي لا أملك إخفاءها وأخال أن كل مواطن يحملها تجاه ولي أمرنا، وباني نهضتنا، وحامي وحدتنا خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله وأعزه ونصره. إنني أعترف أن البيان عاجز، والبلاغة قاصرة، والأحرف لا تفي بمكنون الفؤاد، كيف لا والمعبر عن الفرحة والسرور بذكرى بيعته عظيم من عظماء المسلمين، وإمام فذ، ووالٍ عادل، وحاكم رشيد، والحديث عن منجزاته في هذه الحقبة الممتدة بإذن الله يتطلب مجلدات، ولا يعني أن هذه المنجزات قفزة بدون مقدمات، أو عمل بدون بدايات، لأن هذه الأسرة المباركة أسرة السعد من آل سعود نهلوا من مدرسة الملك الباني - غفر الله له - ونذروا أنفسهم في خدمة الدين والوطن، ولذا فإن مليكنا - أيده الله - يسجل له التاريخ بأحرف من نور، وترصد له لغة الأرقام والمنجزات ملحمة خاضها منذ أن اختاره أخوه جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - رئيسًا للحرس الوطني عام 1383ه، ليضع خبرته القيادية والعسكرية والسياسية في تشكيل وتطوير هذا المرفق الهام، ويستمر عطاء الملك الإنسان، وتبرز مواهبه وقدرته الفذة فيختاره الملك خالد بن عبدالعزيز - رحمه الله - نائبًا لرئيس مجلس الوزراء إضافة إلى رئاسة الحرس الوطني عام 1395ه، وبعد مبايعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - يرحمه الله - بويع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز - يحفظه الله - حينها وليًّا للعهد ويصدر أمرا ملكيا في اليوم نفسه بتعيينه نائبًا أول لرئيس مجلس الوزراء، ورئيسًا للحرس الوطني، ووليًا للعهد ويكون - يحفظه الله - نعم العضد والمعين، ولي ناصح، وسند متين للملك الراحل - يرحمه الله - وفي يوم الاثنين 26/6/1426ه تمت مبايعته ملكًا للمملكة العربية السعودية، لتتوج تلك العطاءات بهذه المناسبة التاريخية، ولتتوالى الإنجازات لا على المستوى الداخلي فحسب، وإنما على كافة الأصعدة، ونعيش ثمار تلك الملحمة واقعًا نتفيأ ظلاله، ونحمد الله على فضله وكرمه، ونسأل أن يحفظ علينا هذه النعم من الزوال. وتمر المملكة العربية السعودية بأزمات متوالية, وفتن متتابعة, ومهددات تستهدف أمن هذا الوطن ووحدته ولحمته, وأزمات أخرى مرت بالمنطقة وبالعالم أجمع, فتتجسد الحكمة والحزم والحنكة والسياسة والدبلوماسية التي انعكست في مواقف أثبتت للتأريخ أن أمة يقودها هؤلاء العظماء لأمة معطاء, وأن وحدة يحميها من يتحمل المسؤولية أمام الله ثم أمام شعبه لهي أمة محفوظة بحفظ الله, مصونة بأمان الله, ومن هنا فإن أول ما يستحق النظر والتأمل ما حبى الله به مليكنا من سمات شخصية كانت وراء تلك المواقف العظيمة, فمن يرصدها يترسم في هذا الملك الإنسان الحنكة والحصافة، والنزعة العربية الإسلامية والمحبة الصادقة لشعبه ووطنه، ومع ذلك البساطة المتناهية التي يعيش فيها مع شعبه وكأنه واحد منهم، ويحتل الوطن والمواطن سويداء القلب، فالوطن يعيش مع ملكينا كل لحظة من لحظات عمره المديد - بإذن الله - لا يرضي له إلا الصدارة، والرقي والحضارة، والأخذ بكل معطيات الحياة المعاصرة وما يضمن الأمة والاستقرار، مع الحفاظ على الثوابت والأسس التي قامت عليها هذه الدولة المباركة، ولذلك سطر التاريخ لولي أمرنا - أيده الله - بأن أمرين لا مساومة عليهما، الدين والوطن، وأما المواطن فهو بالنسبة لمليكنا خصوصًا ولولاة أمرنا عمومًا الاستثمار الأمثل، والركيزة الأساس لكل نهضة وتقدم فكل خطط التنمية، وكل مقدرات الدولة ومكتسبات الوطن تسخر لهذا المواطن، إن هذه السياسة الداخلية هي ما يميز ولاة أمرنا - أيدهم الله - فلئن فاخرت أمم بالديمقراطية فإن رصيد ولاة أمرنا من ذلك ما يمثل الصورة المثالية، والمنهج الإسلامي, إذ يصل المواطن إلى أعلى مسؤول في الدولة من خلال سياسة الأبواب المفتوحة، ولذا فإنه لا يستغرب ذلك الرصيد الشعبي من المحبة والولاء واللحمة لمليكنا - أيده الله - ولتهنه الخيرية التي أخبر بها المصطفى-صلى الله عليه وسلم- حين قال: «خيار أئمتكم الذين تحبوهم ويحبونكم وتصلون ويصلون لكم». وتظهر مواقف الابتلاء هذه اللحمة والمحبة المتبادلة بصورة تستحق الإشادة والمفاخرة, بل هي مصدر السعادة والطمأنينة, ولعل من أبرز ما يستشهد به في هذا الشأن ما حصل أثناء الابتلاء الذي قدره الله عليه, حين غاب عن أبناء وطنه وشعبه ومحبيه ليجري عملية جراحية في الولايات ليسجل للتأريخ أن المسؤولية ليس في قواميسها فراغ تعيش فيه القائد عن وطنه وشعبه وأمته, فخادم الحرمين الشريفين رغم أنه في معاناة المرض, وحالة الإعياء إلا أن ذلك لم يمنعه أن يعيش آلام الوطن والمواطن لحظة بلحظة, وساعة بساعة, ويوجه بما يكون رفعًا للمعاناة, ثم يتتابع هذا ويتوالى بعد ما منّ الله عليه بالشفاء والعافية قبيل وصوله أرض الوطن, لتكون فرحة غامرة بالمقدم الميمون, والاجتماع المبارك, والشفاء التام, ثم بالخير الذي حملته تلك القرارات السامية, وحينما تنكشف المحنة, ويزول الكرب, ويفضح دعاة السوء تصدر تلك الأوامر السامية, والقرارات الحكيمة التي تتجلى فيها عناصر الرشد والصلاح, والخير والرفاهية للمواطنين, وتعزيز مقومات النصر والتمكين, والاستخلاف والأمن, إنها قرارات العز والتأييد, وإرساء دعائم العدل والنصف, ودعم العلم والعلماء, ونصرة الدين والسنة, أفلا يحق لنا قبل ذلك وبعده أن نفاخر بهؤلاء الرجال, ونحمد الله جل وعلا على نعمة ولايتهم, ونرفع أكفنا بالدعاء أن يزيدهم الله عزًّا وتمكينًا وتوفيقًا وتسديدًا. وثاني تلك الشواهد التي عبرت عن هذه اللحمة والحكمة ما استهل به المليك المفدى تلك القرارات من الخطاب السامي, والجمل الوافية التي هي تاج فخار على صدركل مواطن, ومصدر اعتزاز وسعادة للجميع, كلمات رقيقة نبعت من القلب, وحملت كل معاني الإخلاص والوفاء والمحبة والحميمية التي عهدناها من مليكنا المفدى, تجعل كل من سمعها يقول وبلا تروٍّ ولا ترددٍ بل بلا تفكير, وبكل صدق وإخلاص: يعلم الله ويشهد أنك في قلوبنا, وأننا نحبك ونفديك, ونعاهدك على الوفاء, ويقيني أن هذا الشأن يقوله ويشعربه كل مواطن سمع تلك العبارات من ملك الإنسانية, إنها كلمات من ولاة أمر لا يعيشون في أبراج عاجية, ولا يفصلهم عن شعبهم حواجز السلطة والمسؤولية, بل هم في قلوب رعيتهم, والشعب يعيش في قلوبهم, ولذا حملت تلك الكلمات والجمل معاني عظيمة, ودلالات كبيرة, حملت الحب الكبير للشعب العظيم, والتقديرلكل من أسهم في درء الفتنة, وتحقيق أعلى وأجل معاني الوحدة, وعلى رأس أولئك العلماء في هيئة كبار العلماء وخارجها الذين تحملوا مسؤولية الكلمة وأمانة العلم, وكان لموقفهم أثر قوي في توحيد الكلمة وقطع الطريق على المزايدين, ثم أولئك الرجال الأوفياء, والأبطال البواسل في كافة القطاعات الأمنية والعسكرية في وزارة الداخلية وغيرها, الذين هم حماة الوطن, وحصون الثغور, والأعين الساهرة على أمن هذا الوطن ووحدته ومكتسباته, أيدهم الله بتأييده, وحقق بهم ما يطمح إليه ولاة الأمر, ثم عموم الشعب الوفي الذي تنادى عبر الرسائل والشبكات ووسائل الاتصال بأن لا ندع فرصة لداعية سوء أو فتنة, وأن نجعل مصلحة وطننا فوق كل اعتبار. وتحمل تلك الكلمة المحبة الصادقة التي جعلها مليكنا أعظم هدية, وأبقى وصال, عبر عنها بقوله -سدد الله قوله-: «يعلم الله أنكم في قلبي أحملكم دائماً وأستمد العزم والعون والقوة من الله ثم منكم». -حقًا إنها ملحمة الوفاء, والحب والإخاء, جسدها مليكنا بهذه العبارات التي تتقاصر دونها كل الجمل والأحرف, وتتناثر دونها كل المعاني البلاغية, ولايملك المواطن إزاءها إلا أن يبادل المليك بها, ويشهد الله على ذلك, ويحمد الله جل وعلا أن أعلى مسؤول في هذه الدولة يحمل هذه المشاعر التي يحتل بها من مواطنيه سويداء قلوبهم, هذه شواهد على مواقف ومبادرات ومنجزات رسمت لوحة على وجه التأريخ المعاصر لهذه المملكة الغراء, تشهد بالحكمة والحنكة, وتفيض بالمعاني المعبرة عن اللحمة والوحدة. ومن هنا فإننا عند الحديث عن المنجزات والمبادرات في الشأن الداخلي لمليكنا المفدى يجد أن أعظمها وأوفاها ما يصب في خدمة الثوابت, وحماية جناب الشريعة, وتأكيد هذه الأصول العظيمة, والأسس المتينة, وكانت آخرها وليس لها آخر -بإذن الله- هذه الأوامر التي تركز جزء كبير منها على التأكيد على هذه الثوابت وتعزيز دور العلماء والمؤسسات الشرعية, وتحقيق العدل وإرساء دعائمه, ومقاومة مظاهر الفساد والمفسدين, ومصادر الفساد, ارتكزت هذه القرارات على حفظ حرمة الدين, وحماية جناب الشريعة, واستعمال الصلاحية الثابتة شرعًا لولي أمر المسلمين التي جعلها الله عز وجل له, فيتصرف في رعيته بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد, وجاءت بلسمًا شافيًا, ومنهجًا سديدًا, ورأيًا رشيدًا, جاءت في ظل اضطراب وتحير واختلال في مرجعية الفتوى, وتناقض أحدث فتنًا لا يعلم مداها إلا الله, وتجاسر على مكانة العلم ونقد للعلماء, وجرأة على أهل الحسبة, وتبادل للتهم, فتأتي هذه القرارات تؤكد للعلماء دورهم ومكانتهم, وتحفظ لهم هيبتهم, وتمنع الاستطالة في أعراضهم, وبل وتشكل دعمًا معنويًا وماديًا لتعزز مكانتهم ودورهم, وتوحد كلمتهم عبر مجمع يضم العلماء والباحثين, ويصدر عنه ما يكون رأيًا مدروسًا, وفتوى متوازنة, حيث تشكل رأي ثلة من العلماء تعاونوا عبر المجمع على استخلاص أوسط الآراء وأسدها وأصلحها للأمة, ولم تقتصر الأوامر على هذا, بل شملت رعاية مؤسسات الدعوة والاحتساب, ودعم جمعيات تحفيظ القرآن الكريم, لتأتي كل هذه القرارات ضمن منظومة ثوابت الدولة التي قامت عليها, فهي دولة القرآن والسنة, دولة التوحيد والعقيدة والشريعة, وأمر الدين لا مساومة عليه, وأول من يحمي هذا الدين ويغار عليه مَن هم قدوة مواطنيهم ورعيتهم, ألا وهم ولاة الأمور -أيدهم الله-. وأما في المجال العربي والإسلامي والعالمي فإنني أوجز مشاعري بأن أقول: هنيئًا لنا بخادم الحرمين، وإمام المسلمين، لقد مكن لهذه البلاد، وقادها باقتدار إلى الريادة والمثالية الطموحة، وإنجازات مليكنا حديث لايمل، ومعين لا ينضب، يوقفنا بتصرفاته ومبادراته على تمسكه بالإسلام وقيمه وأحكامه، والشعور بشعور الجسد الواحد يجعل قضايا المسلمين وما يحل بهم فوق كل اعتبار، ويساهم ويشارك بكل ما أوتي من ثقل وقوة عالمية ليوظف هذه المكانة في مشاركة المسلمين قضاياهم ومعاناتهم، وها نحن نشعر وبكل فخر واعتزاز أن بلادنا الحبيبة، ووطن الإسلام المبارك يفرض نفسه في كل المحافل الدولية كرائد للسلم والسلام، وقائدنا ومليكنا بمبادراته وحكمته وحنكته يجمع الأمم المتنافرة، لتعتمد الحوار الهادف، والقيم المشتركة، والعلاقات المبنية على التسامح والتشاور، فتختزل هذه المبادرة التاريخ التحديات والعقبات، وتجسد الطموحات والآمال واقعًا حيًا، تقوم على هذه الأسس التي ينطلق فيها من ميزات الإسلام وخصائصه وقيمه وثوابته، وتنبذ كل مظاهر الغلو والتطرف، والإرهاب والإفساد، ويكون الخطاب الوسطي هو الصورة المثالية التي تفرض نفسها كبديل بطرف النقيض، فالحمد لله الذي وفق خادم الحرمين الشريفين إلى مثل هذه المساهمات المؤثرة، التي غيرت كثيرًا من المفاهيم والتصورات التي كان يحملها بعضهم عن الإسلام عمومًا، وعن بلاد الحرمين خصوصًا، ونسأل الله سبحانه أن يمكن لإمامنا وولي أمرنا، وأن يسدد قوله وفعله، ويجعله من أنصار دينه وأعوانه، وممن يجدد الله بهم الدين في هذا العصر، كما نسأله سبحانه أن يحفظه بحفظه، ويكلأه برعايته، ويمده بعونه، ويديم عليه نعمه إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (*) مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية