منيت الساحة الأدبية في بلادنا، برحيل رائد من رواد الثقافة والفكر والصحافة والآداب ففجعت به البلاد وهي تودعه، كما ودعت غيره من رموز هذا الوطن في مجال الحراك الفكري، من خلال أعماله، التي زادت عن الخمسين عنواناً، في الآداب والجغرافيا والرحلات والتاريخ، قدمها فأثر بها على مجرى نشأة تطور الفكر والأدب في البلاد. فلا غرو أن يحظى الفقيد بمنزلة رفيعة وأهمية أدبية خاصة في بلادنا، أهلته لأن ينال جائزة الدولة التقديرية عام 1403ه (1983م) وأن يصبح عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وعضواً في المجمع العلمي العراقي في بغداد، عضواً في المجمع اللغوي الفلسطيني، وعضواً في المجلس الأعلى للإعلام، بالإضافة لعضويته في بعض المجالس الإدارية، وجمعيات البر الخيرية كما حصل، رحمه الله، على وسام مجلس التعاون الخليجي عام 1410ه (1990م).. حصل أيضاً على وشاح الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى عام 1422ه (2002م) تقديراً لجهوده الثقافية بالإضافة للعديد من الدروع والميداليات والجوائز، وشهادات التقدير التي حازها في مختلف المناسبات والمحافل المحلية والإقليمية والعالمية. والأستاذ الخميس، شاعر فحل مخضرم، من عمالقة الشعر الفصيح والنبطي، تناول في إبداعاته كل أغراض الشعر وقواسمه وفنونه، له ديوان يدعى (ربى اليمامة) وله قصائد ومقطوعات شعرية لم تضم في ديوان، لكنها مبثوثة على صفحات الجرائد والمجلات والتسجيلات مبثوثة على صفحات الجرائد والمجلات والتسجيلات، وكان الشيخ الخميس جيد الإلقاء والتغني بروائع الشعر، يحفظ الكثير، مما رسخ في ذاكرته من شعر العصور السالفة، فكانت له سمعة كبيرة في الأندية الشعرية في أنحاء المملكة، وفي كثير من البلاد العربية، وقد وصفه البعض بالرواية الذواقة. كان الفقيد مغرماً بالشعر، معني بقافيته وموسيقاه، يرفض منه ما يدعى بالشعر المنثور، ويقرض أنواع الشعر الفصيح والشعر الشعبي، وهو أول من خبر ذلك اللون من الشعر، ودرس سالفه، وتوصل فيه إلى نتيجة مفادها أن القصيدة الشعبية ليست إلا امتداداً لجذور الشعر الفصيح وقصائده. فالقصيدة من الشعر العربي الفصيح أو الشعر الشعبي هما جناحاه اللذان كان يحلق بهما في سماء مخيلته وابداعاته الراسخة في معترك الفنون الأخرى. لذلك كان له النصيب الأوفر من سماتهما، تتجلى في السماحة وطيب المعشر ورفاهية الحس، فكان ممن علت منزلته وتوسعة دائرة محبيه وأصدقائه وكان كثيراً ما يتمثل بالقديم من الشعر، فيطرب لذكرى المنازل والأطلال مما دفعه إلى حب الأسفار والتنقل بين القفار، وحسب المرء أن يطلع على كتابه (المجاز بين اليمامة والحجاز) ليرى كيف أبدع في وصف الوديان والسهول وكيف حدد الطرق والمسالك، وتعرف على المعالم، حتى أصبحت لديه بمثابة الأصدقاء، فوصفها وصفاص مسؤولاً صادقاً ليس في هذا الكتاب فحسب بل في جل كتبه التاريخية والجغرافية، مسرح نشاطاته المبكرة، ومتع إنجازاته الأدبية والبحثية، وهذا ما جعل كتابه (معجم اليمامة)، يفوق إنجازاته التي كتبها خلال عمره الفكري، بما اشتمل عليه من معلومات جغرافية وتاريخية وإنسانية لا يمكن العثور عليها في غيره، حيث حظي هذ الكتاب باهتمام جماهيري ملحوظ. وهو شاعر وكاتب، ولما يزل في السنوات الأولى طالباً في مدرسة دار التوحيد بالطائف أوائل العقد السادس من القرن الرابع عشر الهجري، حيث كانت الحرب العالمية الثانية تخيم بظلامها الدامس على الدنيا بكاملها، فكان المجال مفتوحاً أمامه ليسجل مقطوعات من شعره، وينشرها ويلقيها في النادي الأدبي الذي كان يرأسه في دار التوحيد، بالإضافة إلى مساهماته في مقالات نثرية واعدة، تحمل الكثير من الجدة في الأسلوب واستخدام عبارات فصيح اللغة، كما تحمل موضوعاتها المثل والمبادئ التي تتوخى التوجهات الدينية والاجتماعية بأسلوب رائع يرفع بها مكانة الفضيلة والتراث. ولد الشيخ ابن خميس على الأرجح عام 1339ه (1919م) في قرية الملقى إحدى ضواحي بلدته الدرعية، كانت عائلته من الأسر العلمية القديمة في الدولة السعودية الأولى، وبعد سقوط الدرعية، وحلول الخراب فيها وتفرق سكانها عام 1234ه (1818م)، رحلت أسرته مثل غيرها إلى الجنوب الأقصى، ثم إلى ضرما، وبعد أن انفرد الإمام عبدالرحمن، والد الملك عبدالعزيز بالحكم، عادت أسرة ابن خميس إلى بلدتها القديمة، وهناك ولد وعاش، ثم تركها وحده ليلتحق بدار التوحيد بالطائف، وكان حينها واحداً من طلبة العلم والآداب، ولم تكن كتب الأدب ودواوين الشعر ومدونات التاريخ بعيدة عن محيطه، وظل هذا شأنه حتى بعد تخرجه من كلية الشريعة بمكة المكرمة والتحاقه بالعمل الوظيفي في الدولة، محافظاً على الثوابت، وعلى لغة التراث، ولا غرابة فهو إلى جانب فضله في العلم والاهتمام بالتراث، يصنف في ذلك الجيل الذي عرف الجمل واستخدامه، وقطع المسافات الشاسعة من أرض بلاده العذراء، وهو على ظهره. لذا جاء وصفه لسهولها ومرتفعاتها ورياضها ونباتاتها صادقاً ومعبراً. وليس مجرد صدى لما تتحدث عنه معاجم التراث وموسوعات الجغرافيا، يدل على هذا قائمة الكتب والبحوث التي قام بتأليفها وتحقيقها في فنون التاريخ والجغرافيا والأقاصيص والنقد والتراث. تلك الكتب والبحوث التي ردمت ثغرة وأكملت نقصاً ملحوظاً من المعلومات التاريخية والجغرافية في المكتبات، لا سيما عن وسط الجزيرة العربية بالذات، بعد أن قامت الدولة السعودية الأولى وانتشرت دعوة الإصلاح في أنحائها، مما يجعل تاريخ هذا الرجل وتراثه سجل اعتزاز على مدى كافة أيام الأجيال القادمة، التي ستقدر صنيعه حق التقدير مع ما قد تم على نحو مكتوم في جيلنا الحاضر. وحتى لا أكون متهماً، بسبب علاقتي الوطيدة بالفقيد، أحيلك أيها القارئ الكريم لتراث الرجل النثري والشعري، وإلى ما كتب عنه في الصحف ووسائل الإعلام، وإظهار جانب من إبداعاته، دون أن يعاني الخيلاء التي أصابت العديد من الدارسين والباحثين، بعد أن وجدوا أنفسهم في مصاف المؤلفين. لكن هذا الرجل الكبير في علمه والمتواضع في التعبير عن نفسه، لم يشعر بذلك وإن طرق دروباً لم يطرقها أحد قبله، لذلك ظل عند محبيه وعارفي فضله في ذاكرة كل واحد منهم، إلى درجة يصعب معها إزالة ذلك أو محوه. وعندما استوى هذا الأديب على سوقه القوية، وقرر الإبحار في فن البحث والتأليف، دخله من أوسع أبوابه، متسلحاً بما يملكه من خمائر متنوعة ومحصولات أدبية، فسارع إلى دراسة الأدب الشعبي وكشف جوانب من مظاهر أساليبه، فاستطاع من خلال البحث والتنقيب أن يكتشف أن القصيدة الشعبية هي منحى ذات أصول وجذور مشتركة مع القصيدة الفصحى، مهما تلونت أو تشكلت، بل إن شعراء القصيد الشعبي متوحدون في توجههم وأساليب تعبيرهم مهما تعددت أقاليمهم أو اختلفت لهجاتهم بما يماثل وحدة الشعر الفصيح منذ العصر الجاهلي بين أصحاب لهجات مختلفة، وذلك في إشارة واضحة من الأديب الخميس إلى رفض رأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وإدعائه أن الشعر الجاهلي كان منحولاً ومفتعلاً، وبذلك حصل أديبنا على ذكر حسن، وشهرة واسعة كانت بمثابة شهادة لم يستجدها أو يطلبها فكان أول من قدمها للنقاش تحت مجهر أعمال الفكر، فخلد ذلك في كتابه (الأدب الشعبي في الجزيرة العربية) الذي أصدره عام 1378ه (1958م). وكمثال على معرفته بالمنازل ووصف الأودية والأطلال، انظر كتابه (المجاز بين اليمامة والحجاز) الذي صدر عن دار اليمامة عام 1402ه (1981م)، في أكثر من (400) صفحة. اعتمد في تحقيق معلوماته في ذلك الكتاب عن المعالم والآثار والمنازل على ما استوعبه من إشارات الشعر القديم (الفصيح والنبطي) التي يحفظ الكثير من جيدها، ومن رحلاته الكثيرة مع جيل أدركه كان يعرف كل شبر من تلك القفار. جيل كان مصدر الرخاء والاستقرار الذي ننعم به اليوم، جيل المحبة الذي لم يحصل له أن رفض غصن الزيتون الذي يقدم له وقد اثنى على الكتاب الكثير من الباحثين ممن لهم معرفة بالمعالم والمنازل في الصحراء السعودية. أما كتابه عن بلدته (الدرعية) فهو أول كتاب جغرافي وتاريخي يكتب عن تلك المدينة، وقد صدر عن دار الفرزدق عام 1402ه (1981م) في أكثر من (400) صفحة أيضاً، وقد دون فيه أدق المعارف والتفاصيل عن تلك البلدة، ذات الأمجاد، وعن الدعوة السلفية التي تحتضنتها منذ البدء، وعن ماضي الدرعية وأمجادها عندما كانت عاصمة للدولة السعودية الأولى. كتب عنها وعن جغرافيتها وعن سكانها وعمرانها وأحيائها، وعن مدارس العلم والمساجد والأسواق والقلاع والأسوار إبان حكم أربعة من ملوكها، ثم ما جرى لتلك البلدة من تخريب وتدمير وغزو، قوض مجدها ومعالمها المعنوية والعمرانية، وحولها إلى أطلال وآثار ومعالم، لم يتردد الكاتب في الإيضاح عنها وشرح أسماء تلك المعالم والآثار.. ثم كتابه الندوة الخالد (معجم اليمامة) موسوعة حوض اليمامة وجبال طويق فقد قام بجمعه وتأليفه عام 1398ه (1977م) طبع دار اليمامة، يضم أكثر من (1262) صفحة.. كتاب لم يسق لباحث أو معاصر أن قدم مثله، أو ما هو في مستواه ولا يمكن لباحث منصف أن يدرج اسم ذلك الكتاب تحت قائمة اسم فن واحد، فهو معجم جغرافي وتاريخي وكتاب أدب وأعلام وأنساب وأسر لو قدم في سباق للموسوعات المعاصرة التي كتبت عن وسط الجزيرة لفاز بالسبق، وحصل على الجائزة الأولى دون منازع فقد قضى مؤلفه جل حياته الفكرية في دراسة معالم حوض اليمامة بصفة خاصة، منذ أقدم عصورها في الأيام الخوالي وحتى عصرنا، وكان لهذه الشخصية شغف خاص بكل ما يتصل بتاريخ الدولة السعودية في جميع أدوارها، وبالدعوة السلفية الإصلاحية، فكرها وأثرها وعن سكان هذه المنطقة وحياتهم وآدابهم وتقاليدهم، فقد كان ذا دراية بأيام أمجادهم وأيام عوزهم على السواء، كما كان ذا إدراك عظيم لما طرأ عليهم من تحضر وازدهار، وبكل ما له دور في التغيير والتبدل، فأودع ذلك في العديد من صفحات إنجازه الفكري، وكان أيمناً في نقله، دقيقاً في تصوره، قوياً في دفاعه عن مبادئه التي التزم بها عبر حياته. لقد كان حزني وأساي لفقده شديدين. الحديث ذو شجون، وكان أهلاً للكفاءة والتقدير، حيث حل مكانة من سبق في الريادة والنهج، وإذا كنت قد تحدثت بالقليل عنه وعن بعض مآثره وأجوائه الفكرية، فإنني أول من يدرك مدى تقصيري في الحديث عن دوره في الريادة الاجتماعية والصحفية، والتذكير بخصائص معالجاته للفنون الأدبية والشعرية والدراسات التاريخية والإبداعية، لكن هذه كلمة موجزة في تأبينه، انبثقت منها بقعة ضوء أردت بها التعريف به لمن لا يعرفه، أما المشهد الفكري الذي كان علي أن أبسطه عن أعماله العظيمة، فقد كفتني مؤونته إحدى بناتنا الفاضلات الدكتورة (هيا عبدالرحمن السمهري) في رسالتها القيمة التي أعدتها، ونالت بها درجة الماجستير من جامعة الملك سعود، في كتاب وسمته باسم (عبدالله بن خميس ناثراً) اشتمل على معلومات غزيرة عن الفقيد، ومآثره العديدة وطبعتها عام 1427ه (2006م). فالعزاء موصول لأسرته الكريمة، التي لم يندمل جرحها بعد، بفقد ابنها عصام، حتى لحق به عميدها العلامة الجهبذ، فقيدنا اليوم. والعزاء موصول أيضا للوطن، كل الوطن، شعباً وأرضاً، لا سيما لجباله وسهوله ووديانه وأطلاله، التي كان الفقيد شغوفاً بها.. فإلى جنات الخلد، أبا عبدالعزيز.. والحمد لله أولاً وأخيراً.