بلا رغبة يومها -كما حين يغني البلبل في قفص - أحسست كما لو أنها تقطع الحاجز الزجاجي محاولة الوصول إليّ. لم تكن تويجاتها تهتز في الريح, حين راحت تحدق بذعر في ماء المزهريات الذي لا يكفي, ولا كانت تحتفي بالأجواء الزرقاء حين السماء وماء نهر آمستل بأمستردام قد التقيا. علجوم التوليب الأصفر والأزرق ما عاد هدية السماء، ولا عُليق السوسن البري سوف يُزين الردهات العالية في هذا الموضع، ولا هذه الأنواع التي لا تُحصي من جمال الأوركيدا والنرجس وزنابق الياقوت المتوهج, ولا عروش شقائق النعمان المتسلقة تخطر بحياتها ذكرى واحدة بعد الآن. قلب كل الورود المعروضة للجمهور بسوق أمستردام قد نأى كثيراً عن البيت, تفكر كانت في الحقول المحروثة وراءها, تصدح بضجيج العصافير, تتذكر ساعات الشمس والظل في منتصف أبريل, يطوف عبيرها المخنوق حول ضفاف الكنالات حيث خرير المياه يصطخب، وشجيرات الصفصاف التي مثلها أُرديت قتيلة. كل الورود المعلقة بالأكاليل المجدولة بين الرؤوس المتراصة لأغصان السرو المدفون في الأُصص, صارت عجراء وطاعنة في السن, فما عاد المطر يهطل في ذاكرتها من جديد, تظهر جميعها شاحبة رغم الربيع, ضحكاتها لن تعود من جديد كالكلام الذي قيل, تقف شاخصة إلى العالم حولها, وقد تراءى لي يومها أنها تجدّف وتجدّف كملاحين متعبين في جسد البحر. حتى أغصان السرو التي تحتضنها ما عادت أذرع تسعفها, ولا بات ممكناً أن تنبجس براعم جديدة من اللحاء, وبين شُجيرات الليف الصغيرة التي تتشبث بتربة الأُصص مذعورة، وحول تلك الدويبات الطويلة في رمقها الأخير, كان حشد كبير من العزاء يمر بجواري, حشد كرر أسئلته الأبدية لي. لم تَسَارع إليها هبوط الخريف وقد كان مؤجلاً، وماذا عساها تصنع النوارس البيضاء الآن في رحيلها؟ وفي حريق موتها البطيء أمام الجمهور أسأل نفسي بحزن, لم لفرط تهكمنا نسمح لقصيدة شعر أن تتشكل على ضريح زهرات قرنفل, نتأمل بابتسامة موتها على الطاولة, وكم أن لدينا هذا الكم من الشناعة لفصل البتلات عن الأغصان, لعزل براعمها الجديدة عن الينبوع, وكيف باسم الرومانسية نشيّعها بين دفتي كتاب؟ كاتبة ليبية مقيمة بهولندا [email protected]