الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته واقتفى أثره الى يوم الدين وبعد.. فإن الناظر المتأمل لمجالس كثير من المسلمين يجدها لا تكاد تخلو من صنفين من المجالس: مجلس مرحوم ومجلس محروم كما قال شيخ الاسلام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله . فالمجلس المرحوم هو ذاك المجلس الفاضل النِّير الخير المفعم والمعطر بذكر الله، المطمئن والمنشرح به قال تعالى: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب» وهذا المجلس من أشرف المجالس وأطيبها وأزكاها، اذ شرف الشيء بشرف ما اختص به وأي شرف أعظم للعبد من ذكر الله له قال تعالى: «فاذكروني أذكركم» البقرة. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه اذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وان ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» رواه البخاري. فالمجلس المرحوم هو ذاك المجلس الذي لا يخلو من: قال الله قال رسوله ففيه الآية والحديث وفيه النصائح والمواعظ والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وفيه الفوائد والعلوم النافعة وفيه الحِكَم والآداب الجامعة وفيه الخيرات التي هي باذن الله من كل شر مانعة، وفيه التفقه في الدين والتبصر بشرع الله الحكيم، وفيه الانشغال باصلاح عيوب النفس عن ذكر عيوب الآخرين فلا تسمع فيه لغوا ولا كذبا ولا صخبا ولا فحشا ولا زورا وبهتانا وافكا مبينا فأصوات الخير والحق فيه مسموعة وأقوال الباطل واللهو فيه ممنوعة فيالها من مجالس هي من حرث وزروع الآخرة يفوز بها المؤمنون يوم التباهي بالمراتب الفاخرة. قال تعالى: «من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه» الشورى. بل ان أهل الجنة لا يتحسرون الا على ضياع ساعة لم يذكروا فيها الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم: «ليس يتحسر أهل الجنة الا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها» رواه الطبراني، وهو صحيح ولذكر الله تعالى فوائد عديدة ذكر بعضها الامام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه «الوابل الصيب» فذكر أكثر من سبعين فائدة وأذكر هنا بعضا من بتصرف قليل واختصار فقال رحمه الله «انه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره، ويرضي الرحمن عز وجل، ويزيل الهم والغم عن القلب، ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط ويقوي القلب والبدن، وينور الوجه والقلب، ويجلب الرزق ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة ويجلب محبة الله للعبد، وفيه الدرس والمذاكرة وهو باب العلم ويورث الذاكر استحضار مراقبة الله تعالى فيدخله في مرتبة الاحسان ويورث الانابة والرجوع الى الله تعالى، ويورث القرب من الله فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه وعلى قدر غفلته يكون بعده منه، يفتح بابا لمعرفة العبد لربه، وانه يورث الذاكر الهيبة لله واجلاله بخلاف الغافل فان حجاب الهيبة والمراقبة رقيق في قلبه، وانه يورث ذكر الله تعالى له كما قال تعالى: «فاذكروني أذكركم» ولو لم يكن في الذكر الا هذه وحدها لكفى بها فضلا وشرفا، وانه يورث حياة القلب، وانه قوت القلب والروح، وانه يجلي صدأ القلب، وانه يحط الخطايا ويذهبها، وانه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى فان الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشة لا تزول الا بالذكر، ومن فوائده ان العبد اذا تعرف الى الله تعالى بذكره في الرخاء عرفه في الشدة، وانه مما ينجي من عذاب الله تعالى وانه سبب تنزل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وانه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل، ومن فوائده ان مجالس الذكر مجالس الملائكة ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين فليتخير العبد أعجبهما اليه وأولاهما به فهو مع أهله في الدنيا والآخرة، وانه يسعد الذاكر بذكره ويسعد به جليسه وهذا هو المبارك أينما كان والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته ويشقى به مجالسه، وانه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة فان كان المجلس لا يذكر العبد فيه ربه تعالى كان عليه حسرة وترة يوم القيامة، وانه مع البكاء خاليا سبب لاظلال الله تعالى للعبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف وهذا الذاكر مستظل بظل عرش الرحمن عز وجل، وان الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين، وانه أيسر العبادات وهو من اجلها وأفضلها فان حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها وان ذكر الله بالتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير غراس الجنة، وان العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال وانه حرز من الشيطان، وانه حفظ من العين والسحر والمس وباقي الشرور، وانه مما يرفع البلاء ويجلب الخيرات والبركات، وان دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده. فان نسيان العبد لربه سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها قال تعالى: «ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون» الحشر، وانه نور للذاكر في الدنيا ونور له في قبره ونور له في معاده يسعى بين يديه على الصراط فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر الله تعالى وانه من أرجى ما ينجي العبد من عذاب الله عز وجل قال الامام الشاطبي رحمه الله: ولا عمل أنجى له من عذابه غداة الجزى من ذكره متقبلا وأنه باب الدخول الى مراضي الله، ومن فوائده ان الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه فهي معية خاصة بالولاية والمحبة والنصرة والتوفيق قال الله تعالى: «إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» النحل، وانه يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال والحمل على الخير في سبيل الله عز وجل ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل، وانه رأس الشكر فما شكر الله تعالى من لم يذكره، وان اكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره، وان الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته كما رواه مسلم في صحيحه، ومجالس الذكر هي من رياض الجنة، وان أفضل كل عمل ما كان فيه الذكر لله أكثر فأفضل الصائمين والمصلين والمتصدقين والمجاهدين والحجاج والمعتمرين من كان أكثرهم ذكرا لله سبحانه..» أ.ه. مختصرا ومن أراد التوسع فيما ذكره رحمه الله فعليه بمراجعته في كتابه «الوابل الصيب». وأما المجلس المحروم فهو ذاك المجلس الذي لا تسمع فيه لله ذكرا ولا شكرا فهو مجلس لا تحضره الملائكة والمؤمنون، وتتسابق اليه الغفلة والشياطين فلا تسمع فيه آية أو حديثا ولا تجد فيه واعظا يدل على الخير ويأمر به، مجلس لم يُضَأْ بنور الهدى والذكر بل هو مظلم قد خيمت عليه ظلمات وخيبة الغفلة، تكون ظلمته بقدر غفلته، نفوس مرتاديه لعظم الوحشة كئيبة وان تظاهروا بالسعادة التي ذهبوا يبحثون عنها ويطلبونها هنا وهناك باذلين في سبيلها كل غال ونفيس وما علموا أنهم كلما غفلوا عن ذكر الله كلما ضاقت نفوسهم وأصبحت صدورهم أضنك وأنكى يقول الله الحق المبين: «ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» طه، واضافة على حرمان هذا المجلس من الذكر فانه مصروف عن الخير بتنوع الشر فيه، ففيه الغيبة والنميمة والنيل من أعراض المسلمين بغير حق، وفيه الكذب والسخرية بالآخرين، وقد يقع من بعض الجهلة الاستهزاء بالدين وهو كفر ولو كان على سبيل المزاح قال تعالى: «ولئن سألتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم» التوبة، فحري بهذه المجالس ان تغيب فيها الفضيلة وتكثر فيها الرذيلة وهي سبب من أعظم أسباب قسوة القلوب وان أبعد القلوب من الله القلب القاسي قال تعالى: «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله» الزمر، وهذا هو شأن الغافلين اذ أبعد الناس عن الخير العبد الغافل وهذا هو المحروم حقا عياذا بالله من ذلك اذ القلوب بالغفلة تصدأ وجلاؤها وطهارتها انما يكون بذكر الله، اذ الذكر أنيس من لا أنيس له وجليس من لا جليس له. ولقائل ان يقول ينبغي الترويح عن القلوب ساعة وساعة فقد كان صلى الله عليه وسلم يمازح الصغار ويلاعب اهله ويسابقهم فيقال بلى كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وأكثر من ذلك ولكن لا ينسى ذكر الله حتى أثناء خلوته مع أهله فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم انه كان يقرأ القرآن وهو واضع رأسه على حجر عائشة رضي الله عنها ولا ريب ان القلوب تحتاج للترويح ساعة بعد ساعة ولكن دون ان ننسى الله تعالى او نغفل عن ذكره اذ لا تعارض بين الأمرين، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم اذ كان فعله أقوم فعل وهديه أكمل هدي. وفي الختام يطيب لي ان اختم الحديث عن المجلس المرحوم بهذه البشرى النبوية الكريمة للذاكرين الله تعالى كثيرا والذاكرات، قال صلى الله عليه وسلم: «ان لله ملائكة يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فاذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا الى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم الى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، قال: فيقول : هل رأوني؟ قال: فيقولون لا والله، ما رأوك. قال : فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا وتحميدا، وأكثر لك تسبيحا. قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يارب، ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو انهم رأوها؟ قال: يقولون: لو انهم رأوها، كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار قال: يقول: وهل رأوها؟ قال : يقولون: لا والله يارب، ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم اني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، انما جاء لحاجة ، قال: هم الجلساء. لا يشقى بهم جليسهم» متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «يقول الله تعالى : وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم». والله أسأل ان يجعلنا جميعا من المرحومين ولا يجعلنا من المحرومين وان يجعلنا من الذاكرين الشاكرين وان يغفر لنا ولوالدينا وذوينا وجميع المسلمين، انه على كل شيء قدير.