يعتبر التوسع المستمر خارج الحدود أبرز سمات التطور الرأسمالي، هكذا بدأ قبل قرون حين بدأت الرأسمالية بالانتقال من حدود الدولة الإقليمية والاقتصاد الاقليمي الى عالم «ما وراء البحار» في عملية زحف استعماري واسعة. كما تجدد الامر قبل قرن من الزمن حين خرجت الرأسمالية من طور المنافسة الحرة الى الاحتكار. واليوم وفي ظل هذه الثورة التقنية الكبرى التي نشهدها يبلغ هذا التوسع مداه ليطيح بكل ما يسمى بالحدود القومية، ليطلق على هذا النمط من التوسع اسم «الكونية» أو «العولمة» وسمته الاساس هي توحيد العالم وإخضاعه لقوانين مشتركة تهمش فيه كل انواع السيادة. قبل عدة عقود بدأت مظاهر هذا المسار تبرز، فبرزت ظاهرة الشركات متعددة الجنسيات، التي وصلت اليوم الى شكل تنظيم دولي باسم منظمة التجارة الدولية «وفي اطار منظومة من القوانين والتدابير التي يلغي مفعولها مفعول القوانين السارية في الدول الوطنية. وقد دخلت الثقافة ميدان هذه العملية الاقتصادية التجارية الجديدة، باعتبارها منتوجا اجتماعيا لا تختلف عن غيرها من المنتوجات لتحرر بذلك من القيود الجمركية وتصبح قابلة للتداول على اوسع نطاق في العالم، فغدت سلعة ينطبق عليها كل ما ينطبق على السلع المادية من إجراءات وقوانين، إلا أن ما يميز هذه السلع الجديدة عن غيرها، ان مجال المنافسة في تسويقها بات ضيقاً جداً، ولا يتسع إلا لمن يملك القدرة التقنية الأكبر. ونتيجة الخلل الكبير في توازن القوى الثقافي على الصعيد الكوني بين ثقافات تتمتع برصيد هائل من الدعم التقني، واخرى مجردة من أية حماية للقوة التقنية، اصبح التبادل الثقافي العالمي القائم في اطار التجارة الحرة، تبادلاً غير متكافىء ولا يعبر عن امكانية تحويل العولمة الثقافية الى تثاقف متوازن بين الثقافات والشعوب والمجتمعات.. الامر الذي ينقلها من حيز التثاقف إلى حيز الغزو والاستباحة لسائر الثقافات الوطنية والقومية. وبهذا المعنى تكون الانسانية عرضة لغزو فكري أعمق وأشمل، بمعنى غزو العقل وتكييف المنطق والقيم والسلوك وتنميط الاذواق. فالشركات العالمية التي تنتج وتصنع التقنية والبضائع الاستهلاكية تعمل اليوم على ممارسة نوع من الهيمنة الفكرية المؤسسة على قولبة الفكر والسلوك بالنمط الذي يحول الانسان الى كائن مستهلك. بجانب ان التقنية ذاتها تمارس دوراً كبيراً في تضييق هامش الحرية لدي الفرد وشعوره بكينونته وخصوصيته. فالغزو الفكري او الايديولوجي ان صح التعبير لم ينته ولن ينتهي ، وانما في كل مرة يأخذ شكلا متطوراً في طرائق ممارسته من اجل الهيمنة، وبحسب ما تقتضيه الظروف المرحلية. واليوم يأتي هذا الشكل الجديد من الغزو وهو مدجج بأدوات المال واحدث تقنيات العصر ووسائل التدمير الروحي، المبنية على الفردية والذاتية، وتحت شعارات مختلفة كالانعتاق الابداعي وتعويم قضية الانسان ومن ثم النظام العالمي الجديد والعولمة وغداً مصطلح آخر.. والهدف استباحة ثقافة الآخر واحلال ثقافة جديدة ولعل هذا ليس جديداً من حيث المبدأ، فقد لعبت استباحة ثقافة المغلوب من قبل الغالب دوراً حاسماً في تاريخ الحروب، فنابليون خلال حملته الشهيرة على مصر أدخل، بجانب الجنود والعتاد الحربي، المطابع والكتب والادوات الصانعة للثقافة، وهذا يلفت الى درجة وعيه العميق بخطورة المسألة الثقافية وعلاقتها المباشرة بالسياسة. ذلك ان فرض أنماط ثقافية معينة على الشعب المغلوب له دور كبير في جعل عملية الاحتلال واقعاً مقبولاً في نظر هذه الشعوب وبالتالي اطالة لعمر الاستيطان في بلدانها. إلا ان اللافت في هذا الشكل من الغزو ان ادواته وتقنياته لا تعتمد على المطابع والكتب، بل لا تعتمد في الاساس على الكلمة او الكتابه عموما في تنفيذها لأهدافها وطرائق انتشارها اذ تعتمد بشكل رئيسي على الصورة، التي تعد الآن بمثابة المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد، نظام انتاج وعي الانسان بالعالم، فهي المادة الثقافية الاساس التي يجري تسويقها على أوسع نطاق جماهيري وهي تلعب أيضا في اطار العولمة الثقافية الدور نفسه الذي لعبته الكلمة في سائر التواريخ الثقافية التي سلفت، فالصورة لا تحتاج دائما الى المصاحبة اللغوية كي تنفذ الى ادراك الملتقى، فهي خطاب مكتمل بحد ذاتها ويمتلك كل سائر مقومات التأثير الفعال في المتلقي وهذا مكمن شعبيتها وتداولها الجماهيري الواسع، وبذات الوقت هو مكمن خطورتها. واذا كانت فاعلية الكلمة وقفا على من يملك خلفية لغوية واسعة، فإن فاعلية الصورة تجاوزت هذا بتحطيم الحاجز اللغوي، تماما كما تجاوزت العولمة الاقتصادية اليوم الحاجز الوطني والجمركي لتصل الى كل فرد وفي عقر داره. واذا كان توزيع الصورة كمادة ثقافية، مقصوراً فما مضى على المجال الوطني لبلد الاصدار، وكان التوسع في مجال التوزيع خاضعاً لعقود تبرم ومنتجات اعلامية تشري وتباع في أسواق المنتوجات السمعية البصرية فانها اليوم تبث الى مجالات جغرافية أبعد وأوسع وتقوم بنقل المادة الثقافية من الحقل الوطني والقومي الى الحقل العالمي، لتضيع الحدود بين جغرافية الثقافة الوطنية والجغرافية الكونية. وبأي حال يمكن القول: ان النظام السمعي البصري اصبح هو النظام الثقافي المسيطر متمثلا بعشرات الامبراطوريات الاعلامية الضاربة، التي تبث يومياً ملايين الصور فيستقبلها مئات الملايين من المتلقين في سائر انحاء البسيطة، ويستهلكونها بوصفها مادة استعمالية ذات عائد تكويني او جمالي او غير ذلك. فثقافة هذا النظام الجديد لا تختلف كثيراً عن مجمل مواد الاستهلاك المعلبة والجاهزة للاستخدام وشركات الاعلام تتنافس لتقديم سلعتها الى المستهلك في اخراج مثير يضعه تحت وطأة إغراء لا يقاوم. لا وقت للتفكير والتمحيص والتردي الفكري.. لا وقت لكل ما يحمي الوعي من السقوط في براثن الخداع، فتنهار ملكة الحيطة والحذر ويتحول الوعي الى مجال مستباح لكل انواع الاختراق، لتأتي بعد ذلك التقنية وتتكفل بهندسة ذلك الاغراء وصناعة اسباب الجاذبية له. واذا اخذ في الحسبان ان هجوم ثقافة الصورة على الوعي يجري في ظل التراجع المخيف لمعدلات القراءة في العالم، تتضح معالم النفق المظلم الذي تدخل اليه الثقافة والوعي ونظام القيم الاخلاقية والانسانية في عصر الصورة والاعلام السمعي والبصري. ولابد من التأكيد هنا أيضا بأن قوة الدفع التي تحظى بها العولمة الثقافية لا تتغذى من الزخم التقاني الكثيف الذي يشهده ميدان التواصل فحسب، بل يستفيد ايضا من آليات العولمة الاقتصادية، ومن النتائج المثيرة التي تحققها على صعيد توحيد العالم وتحطيم الحدود والغاء مفاعيل السيادة. أمام هذه التحديات الجديدة لتركيبة المجتمع البشري وفي ظل ظروف ثقافية عربية مسترخية ما الذي في وسعنا ان نفعله لمواجهة هذه الاستباحة الثقافية للحفاظ على هويتنا العربية والاسلامية ووجداننا الثقافي؟ وكيف لنا ان نترجم الجوهر الانساني الذي تحتضنه ثقافاتنا العربية والاسلامية بتشكيل خطاب ابداعي عصري يحترم ثقافات الامم وشعوبها؟؟ في البدء لابد من الاعتراف بالتنوع أولا كواقع موضوعي وحقيقة ثابتة في مجالات الحياة كافة وبألا طريق للانسان بغير الاعتراف بوجود نقيضه في المجتمع. على هذا يمكن القول: ان المجتمع العربي عانى طويلاً من كوابيس الثقافة المنحلة الاستهلاكية التي عززت فيه الفردية والمصلحة الذاتية وشكلت منه الانسان الاستهلاكي الفاقد للضمير الوطني والانساني والمهتم بما يخصه، فضاقت دوائر انتمائه ومسؤولياته وتضخم لديه حجم الذات الفردية بدل الذات المجتمعية وقتلت فيه روح المبادرة والمحاسبة والمسؤولية. وحين نجد أنفسنا اليوم في المأزق الثقافي الوطني والقومي المروع في عالم تغيرت فيه كل الموازين، ونقف عزلا وجهاً لوجه امام التحديات والنتائج الجديدة لتركيبة المجتمع البشري فإنما نسدد بذلك فواتير ما تم انتاجه سابقا من سياسات ثقافية قامت على فلسفة الاستجابة لمتطلبات الحياة الاستهلاكية دون النظر الى المخاطر والنتائج المدمرة والابعاد التي قد تترتب على هذه الفلسفة. واذا كنا ننشد اليوم مشروعا ثقافيا موحداً فإن الوحدة قائمة ولا تزال في ايقاع الثقافة العربية، ولعلنا لا نحتاج الى لبدائل ايضا!.. ولكن اية وحدة تلك السائدة؟ وأية وحدة تلك التي نبحث عنها لتكون درعاً واقياً لإنساننا العربي المعاصر الذي يمتحن اليوم بثقافته وقدرته على الثبات والمواجهة في ضوء لغة الارقام القياسية؟ إن المشروع العربي الثقافي الجديد ينبغي ان يستند، للوقوف بوجه التحديات التي تعترض له ثقافتنا العربية والاسلامية، الى العقلانية أولا والانفتاح الجريء ثانيا، واستلهام التراث ثالثا وينبغي أن تهيأ بوجهه المناخات التي تكفل لهذه المرتكزات ان تفعل فعلها في صياغة ذلك المشروع القائم على المضمون الانساني والمعبر عن الهوية القومية للمجتمع العربي كترجمة لروح التكوين الاجتماعي له. فالثقافة تراث انساني شاركت في صنعه وأسهمت في تكوينه كل الحضارات والامم ولا تستطيع أمة مهما حشدت من شواهد، الزعم لنفسها السبق على غيرها في تدعيم أركان الفكر الانساني. فثقافاتنا العربية حين انفتحت في العصر العباسي على مختلف الثقافات العالمية آنذاك، إغريقية وفارسية وتركية وهنديةوغيرها وتلاحقت معها على قاعدة الثقة بالنفس، اخرجت أنموذجا ثقافيا متميزاً ليقف شامخا بجانب ارقى البناءات الثقافية وأقواها. وهذا ما يدعونا للقول بان ليس ثمة أي مبرر للخوف على هويتنا الثقافية، وان اختلفت الظروف اليوم عما كانت عليه في العصر العباسي وما تلاه فجميع عمليات الاستباحة والاجتياح عبر التاريخ لم تستطع أن تصنع من أمة أمة اخرى فالثقافة روح الامة، وهي بنية مستمرة متواصلة غير مستعدة لاستقبال ما تأباه تركيبتها القومية او طبيعتها البشرية، ومثلما لم يصبح الجزائريون فرنسيين ولا النمساويون ألمانا ولا الغجر برغم شتاتهم هذا او ذاك وظلت لهم ثقافتهم وطقوسهم الخاصة بهم فإن مفهوم الهوية القومية لايعود ينطوي على مدلول غير الخصوصية المتحدرةمن التكوين الازلي لهذه الكتلة البشرية او تلك مما صاغ وجدانها الثقافي وقسماتها القومية. فالامل لا تقبل عند اي اتصال مع الآخر، سوى ما يتناسب وطبيعتها القومية والبشرية التي تعزز تكريسها لإنسانيتها ومع ذلك فالامر يظل محكوما بحسب التركيبة الاجتماعية التي تقبل في هذه المرحلة وهذه الدرجة من التطور ما كان مرفوضا في مرحلة مبكرة. الى جانب الاجتياح الثقافي يسهل امام الامة الانتقاء دونما ترغيب او ترهيب، وسبل اضافة البيانات الجديدة ذات الجوهر الانساني مما يتناسب مع هويتها القومية والانسانية، وينسجم مع خصوصيتها بوصفها حالة متحركة في ضوء منطلق الثابت والمتحول.. ان تلك العناصر المسماة بالثوابت ليس من السهل زحزحتها بعملية عسكرية او انتصار ثقافي خاطف ضد هذه الامة او تلك. ذلك ان الامة تستجيب عادة في مثل هذه الظروف باتجاهين: الاول ما يناسب طبيعتها مما هو موجود في ثقافة الآخر ولم تستطع الوصول اليه فيما مضى. والثاني ما يكرس انسانيتها ويعزز انتماءها لهذه الانسانية. إذن لا خوف على ثقافتنا من ثقافة الآخر في حال الاتصال لكن الخوف والخطورة تكمن في ادوات ثقافة الآخر، وليس في مفرداتها او قوة خطابها، خاصة وأننا نمارس ثقافتنا بلا ادوات او بأدوات عاجزة وقديمة اعلامياً، ولا تزال لغتنا مختلفة على صعيد المناهج التي يعول عليها التأسيس لوعي ثقافي عروبي واسلامي. فالخطورة في ان ثقافة المنتصر اليوم تحمل معها ادواتها الجديدة والفعالة وتحمل معها كل اساليب الترغيب والترهيب في ظل حرية السوق ومنطق المزاحمة ومواصفات جودة السلعة وفنية التصنيع وفي لعب الطرف الآخر على مفردات موجودة في ثقافتنا أصلاً. وعليه فإن المثقفين العرب معنيون بالعمل الواعي للبحث وايجاد ادوات بديلة ملازمة وضرورية للعملية الثقافية، وكذلك التحذير من التعامل مع أدوات الآخر كيلا نصبح ضمن حوزتها وكيلا نسهم في انعاش تيار يسعى الآخر الى إنعاشه وتأصيله في اطار علاقاتنا وسلوكياتنا الاخلاقية والانسانية. الهوامش: تحديات الفكر والثقافة العربية د. سليمان الاوزعي منشورات اتحاد الكتاب العرب. ندوة العرب والعولمة: مركز دراسات الوحدة العربية.