اطلعت على ما كتبه الدكتور خليل الخليل في صفحة مقالات من هذه الجريدة في عددها 10480 الصادر يوم الجمعة السادس عشر من الشهر الثالث من العام الهجري الثاني والعشرين بعد الاربعمائة والألف وذلك في مقالته الرائعة «النهضة بين التعليم والاقتصاد» والتي جاءت تشخصياً نابضاً بالخبرة والوعي لمشكلة بعيدة الأثر عميقة الخطر، ألا وهي مشكلة التعليم وعلاقته بالتنمية، لا التنمية الاقتصادية فقط ولكن التنمية بمفهومها الشامل الذي يجعل الفرد كانسان محورا لها بكينونته الاجتماعية والثقافية والفطرية والروحية وبأبعاد الانتماء التي يحملها ويتفاعل معها . وبهذه الرؤية الواعية قدمت تلك المقالة مشكلة التعليم في اطارها الصحيح بعيداً عن المجاملة أو المواربة فمستقبل الوطن لا يجب أن يرهن بأي شكل من أشكال الذاتية أو الوقاية الاجتماعية، خاصة أن النظرة التي قدمها مشكورا نظرة مستقبلية تنذر بخطر «العاهات المستديمة» بتعبير المقالة والتي هي عبارة عن ظواهر تخلف ثقافي تنشأ في الأجيال الواقعة تحت وطأة التخلف التعليمي لأسباب اقتصادية أو إدارية وهذه العاهات لها شواهد وعليها مؤشرات حالياً مع الأسف، لعل أبرزها ضعف المستوى العلمي لطائفة كبيرة من خريجي الجامعات والتي تذهب النسبة الكبرى منها إلى مهنة التعليم لتتكرر دورة العاهة المستديمة في حلقة متصلة ما لم يقطعها يد الاصلاح والتطوير. على المسؤولين عن التعليم الجامعي لدينا أن يعيدوا النظر في كثير من السياسات والأنظمة والممارسات حيث تسببت في وأد الابداع وتحطيم الطموح لدى نسبة من أبنائنا، فعلى مستوى الأنظمة اتفق مع الكاتب الفاضل في مبدأ التروي في القرارات المصيرية المتعلقة بالطلاب كالمكافآت والسكن الجامعي فلا يجوز أن تصدر عن اجتماعات الطاولات فقط . بل لا بد من الدراسات العلمية الحصيفة والتقديرات المستقبلية الصادقة لمثل تلك القرارات، خاصة إذا صدرت عن الجامعات وهي بيوت الخبرة في الدراسة والتحليل ومظنة القدوة في ذلك! على مستوى الممارسات لا بد أن يعاد النظر في علاقة الأستاذ بالطالب في الجامعة وكيفية التعامل مع مشكلات هذه العلاقة بجميع احتمالاتها على النحو الذي يحفظ للأستاذ قدره ومنزلته ولكن يحثه في الوقت نفسه على التفكير ملياً قبل استغلال الثقة الكبرى المعطاة له، وأهمية التجرد من النظرة المطلقة إلى الرتبة العلمية والتي استقيت من ارث بعيد عن ثقافتنا الإسلامية والتي تركز على مبدأ التبعية الفكرية والانصياع الاجتماعي للمراتب العلمية بينما ثقافتنا الإسلامية الأصيلة ترى أن العلم له احترامه الذي يوجب على الطرفين «العالم والمتعلم» الانصياع له والتواضع فيه كل منهما للآخر فلا يمثل فيه المتعلم دور التابع، والمعلم دور المتبوع على الصفة المطلقة بل ينطلق الفكر وتنقدح الأذهان ويتعلم الطالب البحث والتحقيق ومعه يكتسب من معلمه آداب التواضع للعلم فلا ترى شيخا يسكت تلميذه ولا ترى عالماً يقمع طلابه، ولا أقصد بالاسكان والقمع الممارسة المباشرة بالصورة المعتادة بل إن سلب الطالب حقه في البحث والتفكير من خلال التلقين والتركيز على الكم المعرفي، بالاضافة إلى تحجيم حركته في المطالبة بحقوقه في الاختبارات، واطلاق يد أستاذه في الكيفية التي يقيمه بها واستبعاد رأي الطالب من تقييم أداء الأساتذة وما شابه ذلك من ممارسات كله اسكات لصوت الطالب وتحجيم لدوره في صياغة المستوى النوعي للتعليم الجامعي وهو المستفيد الأساسي منه، ولم تكن هذه الممارسات موجودة في تاريخنا العلمي المشرق وذلك لتوارث العلماء مع العلم الذي تلقوه آداباً أصبحت أعرافا على مر الزمن فندر أن ترى مخترقاً لها وانظر إلى ما أورده النووي رحمه الله في الجزء الأول من كتابه العظيم «التبيان في آداب حملة القرآن» وذلك في الصفحة الحادية والعشرين كمثال على هذه الروح العلمية الراقية: «وينبغي له أن يرفق بمن يقرأ عليه وان يرحب به ويحسن إليه بحسب حاله فقد روينا عن أبي هرون العبدي قال كنا نأتي أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فيقول : مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا »رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما وروينا نحوه في مسند الدارمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه» وقال أيضاً: «وينبغي أن يشفق على الطالب ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح ولده ومصالح نفسه ويجري المتعلم مجرى ولده في الشفقة عليه والصبر على جفائه». و«عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أكرم الناس عليّ جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إليّ لو استطعت أن لايقع الذباب على وجهه لفعلت وفي رواية إن الذباب ليقع عليه فيوذيني وينبغي أن لا يتعاظم على المتعلمين بل يلين لهم ويتواضع معهم فقد جاء في التواضع لآحاد الناس أشياء كثيرة معروفة فكيف بهؤلاء الذين هم بمنزلة أولاده». وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه» وعن أبي زيوب السختياني رحمه الله قال ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله عز وجل». أما اليوم فمع النمو الهائل في حجم المؤسسات التعليمية وتعدد أطراف هذا الدور فقد دخل فيه الكثير من التشويه ووجدت العناصر الضعيفة والجاهلة «بالمعنى اللغوي للجهل» والتي أساءت لصورة الأستاذ الجامعي وهزتها هزاً عنيفاً وهي مع الأسف ليست عناصر نادرة أو قليلة العدد، ولوعدنا إلى تلك الأخلاقيات الرائعة في تاريخنا الزاهر وصغنا منها أنظمتنا الجامعية والتعليمية لأثمرت ابداعاً وتفاعلا خلاقا وتطويرا بناء، إن افتراض أن كل أستاذ جامعي منزه عن الجور أو الضعف العلمي فلا يراجع خلفه ولا يثرَّب عليه ضعفه لشرخ كبير في الفكر والممارسة ينبغي على المسؤولين عن التعليم الجامعي إعادة النظر فيه وإعادة صياغة دور الأستاذ الجامعي من خلال المنظور الأصيل المتفق مع المبادئ الروحية والاجتماعية التي يتلقاها الفرد في مجتمعنا أما تقديس الأشخاص فلا ينتمي أبداً إلى ثقافتنا أو وعينا الحضاري ولا بد أن يلفظ بقوة وفي أسرع وقت قبل أن تغص به الحلوق. إن تقييم أستاذ الجامعة في العملية التدريسية مطلب وطني لابد من التأمل فيه ملياً فليس كل أستاذ صالح لعملية التدريس، ومن كان على قدر من الجودة العلمية في تخصصه وهو قاصر عن تحقيق العملية التدريسية بمفهومها الصحيح فليعمل في مجال البحث العلمي الذي نحتاج لاثرائه على نحو تطبيقي فعال لتتحقق النهضة التي أشارت إليها مقالة الدكتور خليل الخليل في مقالته والتي وصلت إليها الأمة الأمريكية على اثر صيحة النداء في تقرير اللجنة الوطنية للاصلاح التربوي والمشهور بتقرير «أمة معرضة للخطر» A nation at risk أما التدريس فهو مصنع المطورين والمبتكرين والمخترعين والإداريين والتربويين والمفكرين فلا ينبغي أن يدار بتروس صدئة أوربما كانت تروسا جيدة ولكنها على غير المقاس المناسب، متى ما تلاءمت اسنان التروس جيداً سارت مكائن المصنع بشكل متناغم انتاجي. الأستاذ الذي يقدم معلومات مغلوطة، والذي لا يقدم أية معلومات ويكتفي «بالسوالف» والذي يقدم منهجا مختزلا، والذي لا يحسن شرح مفاهيم العلم فيلجأ إلى تقديم معلومات معلبة بكم هائل يحفظها الطلاب ليختبروا فيها والأستاذ الذي يخطئ في كتابة أسئلة الاختبارات من الناحية العلمية والأستاذ الذي يخطئ في صياغة أسئلة الاختبارات من الناحية الفنية والأستاذ الذي يتحدى الطلاب باختباراته الذي لا يختبر الطلاب أو لا يصحح الاختبارات.. والنتيجة احباطات متتالية للطلاب المبدعين والمتفوقين، ولجوء إلى أساليب ملتوية من الطلاب الضعفاء لأجل النجاح، وتدريب الطلاب على النفاق والتزلف إلى الأستاذ ليرضوا غروره فيحصلوا على النجاح . ويتخرج هؤلاء الطلاب ببغاوات في المجتمع تكررها ما تعلمته في الجامعة على أيدي أساتذتها الأفاضل من نفاق وتزلف وسكون عن الباطل وخداع للمسؤولين المخلصين فكل شيء تمام وبدلا من اظهار المثالب ليتم اصلاحها ويتقدم المجتمع يتم مدح المقصرين والمتلاعبين «لأن الجامعة اكسبت الخريج هذا المفهوم خلال أربع سنوات من النفاق والتملق». إن تقييم أستاذ الجامعة في العملية التدريسية ينبغي أن يعتمد على الطالب كمصدر رئيس «وليس وحيد» للمعلومة التقويمية، بالاضافة إلى فحص المحتوى التدريسي والاختبارات من آن لآخر وبهذه الطريقة سيكتشف «بضم الياء» الأساتذة المبدعون في العملية التدريسية والذين ضاعت جهود ابداعهم سنوات طويلة في خضم الثقة المفرطة وترك الحبل على الغارب، وليكرم هؤلاء ويبرزوا وينالوا حقهم من الرعاية والعناية، بل حبذا أن تتميز جامعاتنا عن جامعات العالم بسن نظام للترقية العلمية يعتمد على نتائج التقويم النوعي للعملية التدريسية للأستاذ الجامعي «لا على عدد السنوات فقط»، ويضاف هذا النظام إلى عناصر نظام الترقية العلمية الأخرى المعتمدة على الجوانب البحثية والعمل الأكاديمي. أتمنى أن يلتفت المسؤولون عن التعليم في بلادنا إلى مشكلات التعليم الجامعي بعين جادة . وأن تدرس الحلول المقترحة والأبحاث الجادة المطروحة حول تلك القضايا سواء ما قدم منها كأوراق عمل في مؤتمرات أو لقاءات تتعلق بالتعليم الجامعي أو ما نفذ لمراكز ومؤسسات البحث العلمي، لأن حل هذه الاختناقات حسب تعبير المقالة السابق ذكرها أمر مصيري لمستقبل النهضة في بلدنا، والتأخر في ذلك ليس لصالح أحد أبدا خاصة وأن هناك أجندة طويلة لتلك الاختناقات تبدأ من معايير القبول وتنتهي بتقييم المخرجات . وذلك على مستويي البكالوريوس والدراسات العليا، أما قضايا البحث العلمي والنشر وخدمة المجتمع فهي قصة أخرى. محمد الملحم