الحج هو الركن الخامس من اركان الاسلام الخمسة وهو فريضة على كل مسلم ومسلمة لمن استطاع الى ذلك سبيلا. قال الله تعالى )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام( الآية )سورة الحج آية رقم 27(. وما ان نزل قول الله تعالى ) يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا( )سورة المزمل آية )1( وقوله تعالى )يا أيها المدثر قم فأنذر( )سورة المدثر آية )11( على قلب رسول الله )صلى الله عليه وسلم( حتى قام وظل قائما اكثر من عشرين عاما يحمل على عاتقه عبء الامانة الكبرى، امانة البشرية وامانة الدين والعقيدة، وامانة الكفاح والجهاد في سبيل الله تعالى.. فتمت له الدعوة وتم له ابلاغ الرسالة وتم له بناء المجتمع الاسلامي على اساس العقيدة الصافية القائمة على اثبات الالوهية لله وحده ونفيها عن غيره، وكان هاتفا خفيا انبعث في قلبه )صلى الله عليه وسلم( يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية حتى أنه )صلى الله عليه وسلم( حين بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه الى اليمن في السنة العاشرة من الهجرة قال له )صلى الله عليه وسلم( ( يا معاذ انك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا ولعلك ان تمر بمسجدي هذا وقبري( فبكى معاذ رضي الله عنه خشعا لفراق رسول الله )صلى الله عليه وسلم(. وشاء الله ان يرى رسول الله )صلى الله عليه وسلم( ثمار دعوته التي عانى في سبيلها الوانا من المتاعب والمصاعب بضعة وعشرين عاما، فيجتمع في اطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها فيأخذون منه شرائع الدين واحكامه، ويأخذ منهم )صلى الله عليه وسلم( الشهادة على انه ادى الامانة وبلّغ الرسالة ونصح الامة. وفي هذه الاثناء اي في السنة العاشرة من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها افضل الصلاة وأتم التسليم اعلن )صلى الله عليه وسلم( بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهورة، فقصد المدينةالمنورة بشر كثير كلهم يلتمس ان يأتم برسول الله )صلى الله عليه وسلم(. وفي يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة تهيأ النبي )صلى الله عليه وسلم( للرحيل، فترجّل وادّهن ولبس ازاره ورداءه وقلد بدنة، وانطلق بعد الظهر حتى بلغ ذا الحليفة قبل ان يصلي العصر فصلاها ركعتين وبات هناك حتى اصبح فلما اصبح قال لاصحابه )اتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة(. وقبل ان يصلي الظهر اغتسل لاحرامه، ثم طيبته زوجه عائشة رضي الله عنها بيدها الكريمة بنوع من الطيب فيه مسك في بدنه ورأسه حتى كان بريق الطيب يرى في مفارقه ولحيته )صلى الله عليه وسلم( ثم لبس ازاره ورداءه ثم صلى الظهر ركعتين، ثم اهلّ بالحج والعمرة من مصلاه، وقرن بينهما، ثم خرج فركب ناقته القصواء فاهلّ ايضا، ثم اهلّ لما استقلت به على البيداء. ثم واصل سيره )صلى الله عليه وسلم( حتى قرب من مكةالمكرمة، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد ان صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الاحد لاربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10ه وقد قضى في الطريق ثماني ليالٍ، فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل لانه كان قارنا قد ساق معه الهدي فنزل بأعلى مكة عند الحجون، واقام هناك، ولم يعد الى الطواف غير طواف الحج. وامر )صلى الله عليه وسلم( من لم يكن معه هدي من اصحابه ان يجعلوا احرامهم عمرة فيطوفوا بالبيت ويسعوا بين الصفا والمروة ثم يحلوا احلالا تاما فترددوا فقال )لو استقبلت من امري ما استدبرت ما اهديت، ولولا ان معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن معه هدي وسمعوا واطاعوا(. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية توجه )صلى الله عليه وسلم( الى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس فاجاز حتى اتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى اذا زالت الشمس امر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي وقد اجتمع حوله بشر كثير فقام فيهم )صلى الله عليه وسلم( خطيبا، والقى خطبته الجامعة المشهورة قائلا: «ايها الناس اسمعوا قولي، فإني لا ادري لعلّي لا القاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا. ان دماءكم واموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا الا كل شيء من امر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وان اول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا اضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب فانه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فانكم اخذتموهن بامانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يطئن فرشكم احدا تكرهونه، فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم مالن تضلوا بعده ان اعتصمتم به، كتاب الله.. ايها الناس انه لا نبي بعدي ولا امة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم، وأدوا زكاة اموالكم طيبة بها انفسكم، وتحجون بيت ربكم واطيعوا اولات امركم تدخلوا جنة ربكم. وانتم تُسألون عني، فما انتم قائلون؟ قالوا: نشهد انك قد بلّغت وأديت ونصحت». فاشار )صلى الله عليه وسلم( باصبعه السبابة يرفعها الى السماء، وينكتها الى الناس وهو يقول )اللهم اشهد( ثلاث مرات. وبعد ان فرغ النبي ) صلى الله عليه وسلم( من القاء الخطبة نزل عليه قول الله تعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا( سورة المائدة آية )3(. فلما نزلت هذه الآية الكريمة بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال النبي )صلى الله عليه وسلم( له ما يبكيك يا عمر؟ قال: ابكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما اذا كمل فانه لم يكمل شيء قط الا نقص.. فقال )صلى الله عليه وسلم( )صدقت(. وبعد هذه الخطبة المشهورة اذن بلال رضي الله عنه ثم اقام فصلى رسول الله )صلى الله عليه وسلم( بالناس الظهر ثم اقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى اتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء الى الصخرات اسفل جبل الرحمة وجعل جبل الرحمة وجبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. واردف اسامة بن زيد رضي الله عنه ودفع حتى اتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء باذان واحد واقامتين ولم يسبّح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح باذان واقامة ثم ركب القصواء حتى اتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى اسفر. فدفع )صلى الله عليه وسلم( من المزدلفة الى منى قبل ان تطلع الشمس حتى اتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى جمرة العقبة حتى اتاها فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فيها مثل حصى الخذف ثم انصرف الى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده الكريمة ثم اعطى عليّاً فنحر ما بقي وهي سبع وثلاثون بدنة تمام المائة واشركه في هديه ثم امر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله )صلى الله عليه وسلم( فأفاض الى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى على بني المطلب يسقون على زمزم، فقال )انزعوا بني عبدالمطلب فلولا ان يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم( فناولوه دلوا فشرب منه. وخطب النبي )صلى الله عليه وسلم( يوم النحر عاشر ذي الحجة أيضا حين ارتفع الضحى وهو على بغلة شهباء والناس بين قائم وقاعد واعاد في خطبته هذه بعض ما كان القاه امس فقد روى الشيخان عن ابي بكر رضي الله عنه انه قال خطبنا النبي )صلى الله عليه وسلم( يوم النحر فقال )ان الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والارض، السنة اثنا عشر شهرا منها اربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. وقال: )اي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله اعلم، فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه قال: أليس ذي الحجة؟ قلنا: بلى..قال: اي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله اعلم، فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه فقال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى قال فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله اعلم فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى.. قال: فان دماءكم واموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. وستلقون ربكم فيسألكم عن اعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ اوعى من سامع(. واقام )صلى الله عليه وسلم( ايام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع ويذكر الله ويقيم سنن الهدى من ملة ابراهيم عليه السلام ويمحو آثار الشرك ومعالمها من بقايا الجاهلية العمياء. وفي يوم الثالث عشر من ذي الحجة نفر النبي )صلى الله عليه وسلم( من منى فنزل بخيف بني كنانة من الابطح واقام هناك بقية يومه ذلك وليلته وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة ثم ركب الى البيت العتيق فطاف به طواف الوداع وامر به الناس. ولما قضى )صلى الله عليه وسلم( مناسكه وتضلع من شرب ماء زمزم وعلّم الناس مناسكهم حث الركاب الى المدينة المطهرة ليستأنف مواصلة الكفاح والجهاد في سبيل الله. والمتأمل في حجة رسول الله )صلى الله عليه وسلم( يجد المعاني والمبادئ السامية التي اشتملت عليها والتي تتعلق بالدعوة الاسلامية وحياته )صلى الله عليه وسلم( وبالمنهج العام للنظام الاسلامي فلقد تعلم المسلمون من النبي )صلى الله عليه وسلم( امور دينهم من صلاة وصيام وزكاة وعبادات وواجبات وكيفية اداء شعائر الحج بعد ان طويت تلك التقاليد الجاهلية المتوارثة ايام موسم الحج من تصدية وصفير وعري اثناء الطواف، لقد اراد الرسول الكريم )صلى الله عليه وسلم( ان يلتقي بالحشود المسلمة في هذا الموقف والذي جاء ثمرة جهاد استمر ثلاثة وعشرين عاما ليلخص لهم تعاليم الاسلام ونظامه في كلمات جامعة وموعظة مختصرة وانك لترى تلك المعاني متجسدة في خطبته التي القاها يوم عرفة ويوم النحر. وكذلك فإن المتأمل في خطبته )صلى الله عليه وسلم( في حجة الوداع يجد انها تخاطب الاجيال والتاريخ بعد ان ادى الامانة للامة وجاهد في سبيل الدعوة الى ربه بلا كلل ولا ملل يستلهم من هذه الكلمات الجامعة مبادىء اصبحت نبراسا اضاء الطريق لكل مسلم. ولقد استشرف المصطفى الكريم مستقبل امته واستلهم توصياته من واقع المنزلقات التي سيقع فيها اقوام من امته خلال الزمن تائهين ضائعين عن القبس النبوي الذي سيتركه بين ايديهم مالم يتمسكوا به. لقد تضمنت خطبته )صلى الله عليه وسلم( مبادىء اصبحت اساسا للدين.. كتحريم الظلم بين العباد واعلانه )صلى الله عليه وسلم( القضاء التام على كل شيء من امور الجاهلية من الاستعباد والظلم والمراباة والعصبية القبلية. كما اوصى )صلى الله عليه وسلم( خيرا بالنساء واعلن القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية واعلن حقوقها وكرامتها التي تضمنتها احكام الشريعة الاسلامية كما ابطل )صلى الله عليه وسلم( تلاعب الجاهلية بأسماء الاشهر حيث كانوا يجعلون حجهم في كل عامين في شهر معين من السنة فجاء الرسول الكريم )صلى الله عليه وسلم( واعلن الزمن والمكان للركن الخامس من اركان الاسلام الى يوم القيامة. ومن المبادئ ان وضع الناس من جميع المشكلات التي قد تعترضهم امام مصدرين لا ثالث لهما ضمن لهم بعد الاعتصام بهما الامان من كل شقاء وضلال هما كتاب الله وسنّة رسوله. كما اوضح )صلى الله عليه وسلم( مبدأ العلاقة بين الحاكم ورعيته القائمة على السمع والطاعة مهما كان نسب الحاكم وشأنه ومظهره مادام يحكم بكتاب الله وسنّة رسوله فاذا حاد عنهما فلا سمع له ولا طاعة اذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولم ينتقل الرسول الكريم )صلى الله عليه وسلم( الى الرفيق الاعلى حتى اشعر امته انه اخرج مسؤولية الدعوة وتبليغها عن عنقه وحملتها امته من بعده فها هو الا سلام ولله الحمد قد انتشر وها هي ضلالات وخرافات الجاهلية والشك تبددت وها هي احكام الشريعة الإلهية قد بلغت فحري بأمة محمد )صلى الله عليه وسلم( ان تنهل من معين هذا المؤتمر الاسلامي الكبير الذي ينعقد في زمان ومكان واحد في كل عام لمعالجة قضاياها المصيرية ليتحقق فيها قول الله )كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر( سورة آل عمران الآية رقم )110(.. ولتشهد امة محمد المنافع الموعودة ما ان تمسكت بدينها وعقيدتها واقامت راية التوحيد شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله. محمد بن أحمد الجوير المستشار البرامجي بالتلفزيون السعودي