أهداني الشيخ الفاضل الكريم، فضيلة والدنا عبدالله بن عبدالعزيز العقيل في شهر محرم من السنة الماضية كتابه المفيد الموسوم ب )الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة( والذي حدثني عنه قبل صدوره بسنوات مما زاد من شوقي إليه وطال انتظاري له فما وقع في يدي لما أُبت تلك الليلة إلا وقد قرأت أكثره وأصبحت في حيرة بين قراءته من أوله أو الوقوف على بعض المواضع التي شدتني من خلال فهارسه. والكتاب عبارة عن رسائل شخصية كان يبعثها الشيخ السعدي - رحمه الله - إلى أقرب تلاميذه إليه وألصقهم به وهو الشيخ عبدالله بن عقيل - حفظه الله- بدأت المراسلة بين الشيخ وتلميذه سنة 1358ه عندما عُين الشيخ عبدالله بن عقيل قاضياً في مدينة أبو عريش في المنطقة الجنوبية واستمرت هذه الرسائل حتى توفي الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - سنة 1376ه أولى الرسائل أرخت بالثاني والعشرين من شهر رجب سنة 1358ه وآخر رسالة أرخت بالسابع والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 1376ه أي قبل وفاة الشيخ السعدي - رحمه الله - بأقل من شهر. انقطعت هذه الرسائل في الفترة )1370-1375ه( وذلك عندما عاد الشيخ عبدالله بن عقيل إلى عنيزة بعد تعيينه في قضائها. وقبل أن أستعرض هذا الكتاب يحسن أن أعرِّف بالمرسل والمرسل إليه أي بالشيخ والتلميذ. أما الشيخ فهو غني عن التعريف، فشهرته بلغت الآفاق ومؤلفاته شرقت وغربت وقد تحدثت عنه وعن علمه ودعوته بست حلقات نشرت في هذه الجريدة في الشهرين الماضيين. لكني أعرّف بتلميذه النجيب الوفي لشيخه عبدالله بن عبدالعزيز العقيل الذي بعثت إليه هذه الرسائل فكان بعيد النظر سديد الرأي عارفاً بفضل شيخه وحاجة الناس إلى علمه فحفظ لنا هذا الكنز وأظهره في وقته عند شدة الحاجة إليه وبحث الناس عنه. فهو الشيخ الجليل عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل العقيل، ولد في عنيزة سنة 1335ه في بيت علم وتقوى فوالده من طلبة العلم المعروفين والأدباء المرموقين وهو شيخه الأول أخذ عنه مبادئ العلوم. وعمه عبدالرحمن تولى القضاء في جيزان وفي ذلك الوقت لا يعين في القضاء إلا من عرف بالعلم والعمل. إضافة إلى أخيه الأكبر عقيل قاضي العارضة المتوفى سنة 1365ه وهو غير الشيخ عقيل بن عبدالعزيز العقيل مدير مؤسسة الحرمين الخيرية فهو أخ له سُمّي عليه بعد وفاته حيث استفاد منه الشيخ عبدالله في مراجعه ودروسه وإيضاح ما يشكل عليه. في هذه البيئة العلمية نشأ فالتحق بمدرسة صالح بن صالح ثم مدرسة الشيخ عبدالله القرعاوي حتى تأهل فالتحق بحلقات الشيخ السعدي - رحمه الله- ولازمه ملازمة تامة فأخذ عنه سائر العلوم. كما أخذ من غيره من العلماء أمثال الشيخ المحدث علي بن ناصر أبو وادي المتوفى سنة 1361ه والشيخ عبدالله بن محمد بن مانع المتوفى سنة 1360ه والشيخ محمد بن علي التركي المتوفى سنة 1380ه والشيخ عمر بن محمد السليم المتوفى سنة 1362ه. عين سنة 1353ه ملازماً لعمه الشيخ عبدالرحمن قاضي جيزان ومساعداً له في الإمامة والخطابة والتدريس وهو لم يبلغ العشرين من عمره وفي عام 1358ه عين رئيساً لمحكمة جيزان فراجع الشيخ عمر في ذلك لصغر سنه وكثرة أعمال المنطقة فعيّنه في أبو عريش ثم نقل سنة 1365ه إلى محكمة الخرج ثم نقل سنة 1366ه إلى محكمة الرياض ثم نقل سنة 1370ه إلى قضاء عنيزة فلازم شيخه مرة أخرى حتى سنة 1375ه حيث نقل عضواً بدار الإفتاء بالرياض فلازم رئيسها الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله- وأخذ عنه وفي عام 1391ه عين عضواً في هيئة التمييز بالرياض ثم عضواً في الهيئة القضائية العليا ثم عضواً في مجلس القضاء الأعلى ثم رئيساً للهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى. إضافة إلى توليه لأعمال كثير من اللجان عضواً أو رئيساً حتى تقاعد سنة 1405ه. وقد بذل الشيخ عبدالله نفسه لطلبة العلم فأخذ عنه عدد كبير من التلاميذ وخصوصاً بعد تقاعده إذ فتح بيته منتدىً علمياً يؤمه العديد من طلاب العلم في سائر الأوقات يقرأون عليه في سائر الفنون وخصوصاً الفقه الحنبلي في المختصرات والمطولات. وهو يرتاد مكة في كل شهر ليصوم الأيام البيض فيها فيستغل بعض طلبة العلم هذه الفرصة ليأخذوا عنه. إضافة إلى هذا فقد وهبه الله أخلاقاً فاضلة يندر وجودها في هذا الزمن فهو يتواضع للصغير والكبير فمع ما آتاه الله من العلم وما تولى من المناصب الرفيعة إلا أن هذا لم يزده إلا تواضعاً وما زاده هذا التواضع إلا رفعة تصديقاً لما جاء في الحديث «ما تواضع أحد لله إلا رفعه» زاده الله رفعة في الدنيا والآخرة وختم لنا وله بالصالحات. وقبل الحديث عن الكتاب أبين أنه من توفيق الله تعالى للشيخ عبدالله أن وفقه لحسن اختيار من يقوم بتحقيق الكتاب فأشهد أن المحقق الشيخ هيثم الحداد قد وفق توفيقاً لا زيادة عليه في إخراج الكتاب والتعليق عليه بعبارة رصينة وأسلوب بليغ ولم ينقل الحواشي بما لا داعي له كحال كثير من المحققين وزاد من جمال الكتاب ما ألحقه به من فهارس تفصيلية. فخرج الكتاب بمجلد لطيف زادت صفحاته على الأربعمائة صفحة بطباعة فاخرة. أما محتوى الكتاب فهو كما ذكرنا أولاً في الأصل أنه رسائل شخصية بعثها الشيخ إلى تلميذه لكن من الشيخ ومن التلميذ!! هذه الرسائل الشخصية أصبحت الآن مرجعاً علمياً في فنون كثيرة. ولست أدري من أيهما أعجب، من ذلك الشيخ الذي يمد تلميذه بالنصائح الدعوية والتوجيهات التربوية والتصويبات العلمية مع بعده عنه؟ أم من هذا التلميذ النجيب الوفي الذي استمرت علاقته بشيخه فلازمه مع بُعد المسافة بينهما وأخذ عنه مع هذا الفراق ما لم يأخذه الملازم لحلقته المتابع لدرسه؟ ولنا مع هذا الكتاب وقفات: الوقفة الأولى: مع أسلوب الشيخ - رحمه الله - في كتابة هذه الرسائل الشخصية حيث كتبها على السليقة بدون تكلف أو تحسين عبارة ولذا جاءت في كثير من الأحيان باللهجة العامة الدارجة وهذا أمر معهود في ذلك الزمن حتى في المخاطبات الرسمية ومن وقف على بعض المخاطبات بين الملوك والأمراء عرف ذلك والشيخ - رحمه الله - لم يدر بخلده أن هذه الرسائل ستنشر بكتاب يقرؤه الناس وإلا لصاغها كغيرها من المؤلفات التي أعدها للنشر. لكننا استفدنا من هذه الكتابة العفوية فوائد عظيمة أتحفنا بها المحقق عندما أعاد كثيراً من الكلمات العامية إلى أصول عربية وانظر على سبيل المثال صفحات : 50، 56، 86، 109. الوقفة الثانية: تدلنا هذه الرسائل على عمق الرابطة بين الشيخ وتلميذه وهي أيضاً تدل على المتابعة والرعاية من الشيخ لتلميذه رغم بُعد المسافة وطول الفراق والرسائل هي الوسيلة الوحيدة للتواصل في ذلك الوقت واهتمام الشيخ بتلميذه وحرص التلميذ على مواصلة شيخه هي التي اخرجت لنا هذا الكنز الذي نتحدث عنه. الوقفة الثالثة: يتبين لنا من خلال هذه الرسائل حرص الشيخ - رحمه الله - على تربية تلاميذه رغم بعدهم عنه، يتضح هذا من خلال تذكير الشيخ المتواصل لتلميذه بمواصلة العلم وتدارسه ونشره وتعليمه وانظر على سبيل المثال الصفحات التالية: 35، 54، 118، 135، 253. وحسبك أن تقرأ وصيته لتلميذه في أول رسالة أرسلها إليه حيث يقول: وصيتي لك ولابد من جهة الجد والاجتهاد في مطالعة الكتب الفقهية في كل فرصة تغتنمها خصوصاً حين دعت الضرورة مع أن الاشتغال في الفقه في الدين فيه فوائد عظيمة لا يشاركه فيها شيء منها:.. ثم شرع رحمه الله يبين فوائد طلب العلم حتى نهاية الرسالة. وأما فرحه بقيام تلميذه بالتعليم والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم توجيهه - رحمه الله- له وحثه على مواصلة العمل وبيان مكانة هذا العمل من الدين فانظره في الرسالة الخامسة. والوقفة الرابعة: في هذه الرسائل بيان واضح لدروس الشيخ وجلساته والفنون التي درسها والكتب التي اختارها اضافة الى التعريف ببعض مؤلفاته وسبب تأليفها وانظر على سبيل المثال الصفحات التالية : 52، 79، 80، 87، 90، 97، 101، 160، 179، 207، 232، 247، 264، 281، وغيرها وهذا لا تجده سوى في هذا المؤلف. الوقفة الخامسة: بيان الشيخ - رحمه الله - لرأيه في بعض المؤلفات أو مؤلفيها وانظر على سبيل المثال الصفحات التالية : 93، 89، 114، 120، 141، 219، 257، 261، 265، 267، 299، 325، 338 وغيرها. الوقفة السادسة:تربية الشيخ - رحمه الله - لتلاميذ على الاجتماع ونبذ الاختلاف وإحسان الظن بالناس ويتبين هذا من خلال التوجيهات التي أسداها إلى تلميذه أو من خلال بيانه لموقفه من بعض الأشخاص أو من بعض الفتن فنراه يقول في إحدى رسائله لتلميذه يخبره أن أحد العلماء أرسل إليه رسالة شديدة اللهجة فيها تهجم عليه لمسألة اختلف معه فيها فيقول: «من مدة كم شهر وصلني كتاب.. ينكر فيه ما ذكرته في باب حكم المرتد وانكاره في شدة عظيمة فرددت كلامه بلطف وأحلته بهذا التفصيل على كلام الشيخ ابن القيم ولم أناقشه في شدته ولا حاسبته على ألفاظه غير اللائقة..» لأن الظاهر أنه إن شاء الله - مهوب كله هوى لأني ما أعرفه ولا يعرفني ولا جرى بيني وبينه قبل هذا أدنى مكاتبة وإنما حمله على ذلك أنه انعقد في فكره هذا الذي يراه. وانظر ص120 وذكر بعض الخلاف الذي وقع بين أحد المدرسين الوافدين وبعض طلبة العلم بسبب سوء الفهم ثم بين منهجه في التثبت وحسن الظن، وإقالة العثرة - إن وجدت - في منهج فريد ورأي سديد انظر: ص254، 259 وانظر كذلك كلامه عن الشيخ ابن محمود عندما أنكر عليه اجتهاده في بعض مسائل الحج ص338. الوقفة السابعة: الرسائل كلها فوائد علمية فهو - رحمه الله- يفتتح الرسالة بالسلام والسؤال المختصر عن الحال وإخبار تلميذه بما استجد من أحوال ثم بعد ذلك ينثر فوائده فيما تبقى من الرسالة إما التوجيهات الدعوية أو الوصايا التربوية أو الإجابات العلمية ولذا فقد يظن القارئ لأول وهلة أنها رسائل شخصية بحتة لا تخص إلا من أرسلت إليه لكن من اطلع عليها يرى أن الأمور الخاصة التي تتعلق بالمرسل إليه لا تعد شيئاً بالنسبة لمحتوى الكتاب وحسبك أن تطالع الفهارس الملحقة بالكتاب لترى المادة العلمية التي حوتها هذه الرسائل وحسبك أن أستعرض لك بعضاً من هذه الفوائد. تحدث في عدد من الرسائل عن كثير من أحكام العبادات كالطهارة وما يتعلق بها والصلاة وبعض أحكامها والجمعة وخصائصها، كذلك حوت بعض الرسائل حديثاً عن الزكاة والصيام وما يتعلق بهما من أحكام. أما الحج فقد أخذ النصيب الأكبر من الحديث حيث ذكر الشيخ - رحمه الله - لتلميذه سفره للحج سنة 1375ه واجتماعه بالعلماء في مكةالمكرمة ومناقشة توسيع المطاف ونقل مقام إبراهيم وبيوت منى والحكم فيها إضافة إلى كثير من أحكام الحج وبيان رأيه في اجتهادات ابن محمود في بعض مسائل الحج والتي أثارت الجدل في وقتها كرمي الجمرات قبل الزوال في أيام التشريق وسقوط الرمي عن العاجز وغيرها من الأحكام. أيضاً حوت هذه الرسائل رأي الشيخ في بعض مسائل العقيدة كتفكير الجهمية والمعتزلة ورد الشيخ على من أخطأ في فهم كلامه. إضافة إلى الفوائد اللغوية والتصويبات النحوية التي اتحف بها الشيخ تلميذه والتي جاءت عرضاً أو إجابة لاستفسار من تلميذه النجيب. * أما ما يتعلق بالأحكام الخاصة بالحكم والقضاء والبينات والدعاوى فهذا هو جل موضوع الرسائل وما ذلك إلا لأن الشيخ ابن عقيل - حفظه الله - كان يراسل شيخه وهو في منصب القضاء يسأله عما يشكل عليه فكان الشيخ - رحمه الله- عند حسن ظن تلميذه يوضح له الغامض ويحل الإشكال ولذا فهذا الكتاب يهم القضاء بالدرجة الأولى وخصوصاً أن عامة المسائل المتعلقة بهذه الأحكام من غوامض المسائل التي قد يقف عندها القاضي، فقد تكلم - رحمه الله - عن كل ما يتعلق بأحكام القضاء كالبينات والدعاوى والعقود والبيوع وأحكامها وصورها والشراكة وما يتعلق بها والإجارة والوقف وأحكامه والوكالة والشهادة وأهلها إضافة إلى الأحكام الزوجية كالنكاح والطلاق والخلع والنشوز والحضانة وما يتعلق بهذه من أحكام وقضايا القتل والديات والأروش والجنايات إضافة إلى ما يتعلق بالقاضي من أحكام ما يحتاجه من توجيهات وآداب. وبالجملة فعامة الكتاب في هذه المسائل وأشبابها، اذ اخذت النصيب الأكبر من هذه المراسلات بين الشيخ وتلميذه. ومع هذه الفوائد العلمية في عامة أمور الدين وأحكام القضاء هناك الفوائد المتناثرة التي لا يحويها موضوع ولا تدخل تحت عنوان وهي كثيرة لا مجال لحصرها وكثير منها كانت إجابات عن أسئلة . إضافة إلى ما يتعلق بالأمور الاجتماعية والبيئة العلمية في ذلك الوقت كحديث الشيخ- رحمه الله - عن المعاهد العلمية ومناهجها أو حديثه عن عمارة الجامع الكبير بعنيزة وتدريسه فيه وأحوال طلابه مع هذه الدروس أو موقف الشيخ - رحمه الله - من بعض الخلافات التي حدثت بين بعض طلاب العلم في ذلك الزمن وغيرها من الأخبار الاجتماعية التي تجدها في ثنايا هذه الرسائل ومما زاد من هذه الفوائد ما ألحقه المحقق من ترجمة لعامة الشخصيات الواردة في ثنايا الرسالة مما لا يجده الباحث في غيره من المصادر. وبالجملة فالكتاب حافل بالفوائد والفرائد التي لا تجدها في غير هذا الكتاب الحافل واعتقد ان إخراج هذه الرسائل ونشرها بهذه الصورة من أعظم ضروب الوفاء من التلميذ لشيخه وخصوصاً في هذا الوقت الذي أقبل فيه طلاب العلم على مؤلفات هذا الإمام وعرفوا قدرها. فجزى الله شيخنا الشيخ عبدالله خير الجزاء وجعل هذا العمل في موازين حسناته والثناء موصول لكل من ساهم في إخراجه. والله من وراء القصد.