التقليد هو السير على مثال السابقين في أقوالهم وأفعالهم، ودليل هذا قول الله تعالى: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون)، أما الابتكار فهو ابتداع الشيء بطريقة جديدة ليست على مثال سابق، وهو أيضاً إيجاد الشيء وصنعه بشيء آخر بعد أن لم يكن، وقد كان المسلمون الأوائل في بداية أمرهم مبتكرين ومبدعين وموهوبين، يظهر هذا واضحاً جلياً في تقدمهم وتطورهم في فنون عديدة، وعلوم كثيرة كعلم الكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات والهندسة وعلم الجبر، فهم من اخترع البوصلة البحرية، وبلغوا الذروة في علمي الحيوان والنبات، وحسبك أن تعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه بلغت البلاد أيام خلافته أوج تقدمها وتطورها وتقسيمها الإداري والتنظيمي، ولولا ثاقب نظره، وسعة إدراكه، وقوته العقلية المتفرسة، ما استطاعت جيوشه الإسلامية الهمامة ان تتوغل داخل بلاد فارس والروم، بل وصلت هذه الجيوش بسعة مدارك قادتها كخالد بن الوليد والمثنى بن حارثة، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وموسى بن نصير إلى استخدام وسائل حربية متطورة، ثم تأتي الفئات العلمية الواسعة، بعد فئة القواد والفرسان، فالجاحظ بلغ ما بلغه من الذروة العلمية، والشهرة الواسعة حين كان مبدعاً ومبتكراً في كتبه ومؤلفاته، على كثرتها واتساعها وشمولها، فله البيان والتبيين، ثم الحيوان، والبخلاء، وغيرها الكثير الكثير، وقد عرف عنه حب الابتكار والإبداع والتبحر والتدقيق في أقواله وآرائه، حينما كتب الحيوان كان يعرض ما يمر على ذهنه من أقوال العلماء والمفكرين، على التجربة، فقد عرض أقوال أرسطو وغيره من أعلام اليونان وأفذاذهم على العقل والبرهان والتجربة، فإن وافق العقل النقل أخذ بالقول وإلا رده، فيذكر ان أرسطو كان يقول: إن الثعابين تهرب من رائحة الشيح، فجرَّب هذا في بيته الخاص، وحديقته الخاصة ولم يتحقق له هذا القول فرده، وكان الجاحظ ذا نظرة ثاقبة فاحصة، فهو يقبل رأي البدوي البسيط الذي وافق التجربة والبرهان على رأي العالم المدقق كأرسطو إذا خالف الواقع والتجربة والتطبيق. وتذكر كتب الأدب والبلاغة ان الشاعر الكبير المعروف بأبي تمام استطاع أن يبتكر عشرين معنى جديداً، أودعها شعره، ولم تعرف من قبل، أما أبو الطيب المتنبي فقد ابتكر على جلالته وعلو قدره خمسة معانٍ شعرية، لم تعرف من قبله أيضاً، والخليل بن أحمد الفراهيدي هو مخترع فن العروض على ستة عشر بحراً شعرياً بلا منازع، والأندلسيون هم من أبدعوا فن الموشحات الأندلسية وأجادوا فيها، وكانوا يتباهون بهذه الموهبة الموهوبة أمام إبداع المشارقة ومواهبهم، لكن ما لبثت هذه النهضة أن تحولت إلى كبوة، وهذه الخطوة غدت عثرة، وشاع فينا التقليد، فمخترعاتنا أوروبية، وثقافتنا وحضارتنا غربية، وقد بدا علينا هذا الكسل العقلي، والتراخي النفسي، والتعكز على الآخرين منذ العصور الإسلامية الوسطى والمتأخرة فالنحو وقف على سيبويه اللهم إلا مسألة التبسيط والتسهيل والشرح والترتيب، والبلاغة وقفت على عالمها الأول عبدالقاهر الجرجاني، وعلم العروض وقف على الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولو حاولنا النظر في علم الاجتماع لوجدناه أيضاً موقوفاً على رائده الأول ابن خلدون في مقدمته الرائدة الخالدة، فقد غلب على المسلمين منذ عهد الخليفة المتوكل على الله، منهج المحدثين في الاعتماد على النقل لا العقل، وفي الإكثار من الرواية المجردة عن الدراية، ولله در الإمام أحمد بن حنبل، ذلك الفحل العلم المبتكر، حين قال: (فهم الحديث أحب إليّ من حفظه)، وأما علماء الإسلام فهم منقسمون إلى قمسين: الأول: قسم يقلد السابقين العرب حذو القذة بالقذة, والثاني: قسم يقلد الغربيين المتأخرين. وكأن الله تعالى لم يخلق لهما عقولاً، لا سيما ان الابتكار والاختراع مرتبط تماماً بالعقل والذكاء، والقسم المجدد المبتكر ندرة وهو اقل القليل، فأين لنا الآن بعلماء مبتكرين على مثال ابن مضاء الأندلسي، الذي فكر أن ينشىء نحواً جديداً مؤداه فكرة البناء على العامل الظاهر او المقدر وهي فكرة تختلف تماماً عن فكرة سيبويه الذي أنشأ النحو العربي المعمول به الآن، فالمحزن أن المبتكرين في عصرنا هذا هم مقلدون أيضا، فالسؤال الذي يعرض في ذهن المثقف إذا تصدى لموضوع معين: مالذي فعله الغربيون والمخترعون الأوروبيون في هذا الحقل أو ذاك المجال؟ ولو أن هذا المثقف فكر بطريقة تختلف عن طريقة أقرانه الأوروبيين لوصل إلى ابتكار وإبداع جديدين لا سابق ولانظير لهما، ولحصل لنا علم جديد، وأدب جديد، وحياة جديدة، ولكن متى يحدث هذا؟ اعتقد ان الوقت قد حان، وأن الزمن قد أزف واقترب، خاصة أن العقلية العربية المثقفة لا تقل عن رهينتها إبداعاً وموهبة وابتكاراً وعقلاً بل إن الإسلام نفسه كان حاثا ومشجعا على هذا الأمر، فآيات توجيه النظر، والتدبر لاكتشاف خالق هذا الكون كثيرة ومتعددة، وإذا نظرنا إلى ذكر الله تعالى لأبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يتأمل الكون باحثا ومدققا ومقنعاً لعقله، لوجدنا ان الله تعالى ذكره في معرض مدحه له، وثنائه عليه، فيقول الله تعالى: فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون وحينما عرف ربه لم يطمئن إلى هذا التعرف حق الاطمئنان، حتى اختبر هذا، وقد سأله ربه عندما أراد التعرف على قدرته العظيمة في إحياء الموتى: أولم تؤمن قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي وإجابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام (ببلى) لها معنى عند أهل اللغة، فقد جاء في مختار الصحاح للرازي مادة (ب ل ا) بلى: جواب للتحقيق توجب ما يقال لك لأنها ترك للنفي، غير أن هذا الاتباع الغربي لا الإبداع الشرقي له سبب وجيه كما جاء في مقالة التقليد والابتكار للأديب الكبير أحمد أمين في كتابة الرائد فيض الخاطر (9/12 15) فيتساءل في معرض حديثه عن هذا التقليد والاتباع والكسل الفكري فيقول: (الذي يظهر أن تتابع الظلم عليهم، وما أصابهم من غزوات التتار، وما أتعبهم من الحروب الصليبية، ونحو ذلك كله فت عضدهم، وكسر من نفوسهم، فالابتكار يحتاج إلى سرور بالحياة وتفتح لها، وأما من لم يسر بالحياة، ولم يستمتع بها، وينتظر الموت إن عاجلاً أو آجلاً، فلا تتفتح نفسه لابتكار ولا تفكير فيه) وهذا سبب له وجاهته الفكرية والمنطقية فقد أسهب العلماء سواء كانوا قدماء أم متأخرين في ذكر الآثار النفسية والمعنوية التي خلفها غزو التتار على البلاد العربية والإسلامية لا سيما التراث الفكري الذي ذهب كثير منه نتيجة حرق الكتب وإلقائها في النهر، وأما الكآبة فهي مغلاق السعادة، فكم من مبدع ومفكر وموهوب أطفأت الكآبة زهرة حياته، وشمعة ينبوعه. ويبدو أن هذا الموضوع قد أخذ بتلابيب هذا المفكر الكبير، فيطرح الموضوع مرة أخرى في نفس الكتاب ويسميه الابتكار ويحاول أن يبحث عن سبب الخمول الفكري والكسل الروحي، فإذا بعقله يوحي إليه بسبب فلسفته المنطقية وحكمته فيقول في (9/146): (لعل ضغط الكنيسة على الغربيين جعلهم ينفرون فيبتكرون، وتسامح الإسلام مع المسلمين جعلهم ينامون، وكثيراً ما قالوا إن الضغط يولد الانفجار، والكرة من المطاط إذا ضربتها فضغطتها ارتفعت بمقدار انضغاطها)، ثم يوجه هذا المبدع المفكر دعوة فكرية عامة حيث يقول في نفس الكتاب: (وحبذا لو نادى الزعماء طويلاً بالحث على الابتكار والدعوة إليه، والتنبيه على أضرار التقليد، ووضعوا في برامجهم التعليمية تعويد الناشئين ان يتساءلوا دائما عندما يروى لهم خبر أو سير على طريقة خاصة :(لم هذا؟ وما برهانه؟ وما الفائدة منه؟ ولعل هذا هو المعقول أو عكسه، إنهم إن عودوهم ذلك وهم ناشئون شبوا وعقولهم ناضجة، فأحبوا الابتكار وسعوا إليه وعملوا به، كما يجب على الزعماء أن ينفوا الأقوال القديمة والشعر القديم والأدب القديم من كل ما يحث على الاتباع والتقليد، وينفر من الابتكار والتجديد، فيحذفوها من تراثهم، ولا يستقوا من التراث إلا ما كان صالحاً لبرنامجهم الجديد). فلله در الأديب أحمد أمين الذي اشرأبت نفسه بحب الابتكار والإبداع، فإذا به يوجه الحكماء والزعماء إلى التنشئة الصالحة للنشء المسلم، لأنهم بوادر الخير، وأجيال المستقبل، وقد كانت هذه الفئة من النشء الموهوب والمبدع محل نظر واهتمام من قبل العلماء والباحثين الدارسين، فوضعوا صفات عامة يستطيع المربون التربويون من خلالها فحص شرائح هذه الفئة بكل دقة ومنهجية ثم فرز هؤلاء الأطفال الذين يملكون موهبة الإبداعية والابتكارية، وقد بدأ الاهتمام بهؤلاء منذ الستينات، حيث عنيت بعض هذه الدراسات عناية فائقة بشرائح كبيرة وواسعة من الموهوبين عقلياً، حتى ان بعضها استمر على مدى خمسة وثلاثين عاما، وكانت هذه الدراسات تحظى بشيء غير قليل من الدقة والعناية، خاصة تلك الشعوب المطبقة لنظام الديمقراطية الحديث، وكانت بداية هذا المشوار الطويل، ونقطة انطلاقته هم الأطفال الذين يتوسم فيهم، وترتسم عليهم ملامح الإبداع، وشمائل الابتكار، ويرى التربويون المحدثون أن الطفل الذي يتنبأ له بمستقبل زاهر هو من الأطفال الذين يتصفون بذكاء عقلي خارق واضح، وصفات جسمانية تفوق أقرانه، فتحصيله الدراسي عال جداً، وهو يقضي في الفهم والدرس فترة زمنية أقل من تلك التي يقضيها أترابه، وهو ميال بطبعه إلى القراءة بشغف وهمة غير عاديين، وهذا حسب ميوله الأدبي أو العلمي أو الاجتماعي وهكذا، ويلاحظ أن عمر هؤلاء الأطفال العقلي يكبر عمرهم الزمني بنحو سنتين أو ثلاث سنين وربما أكثر من هذه المدة الزمنية، وهم أيضاً يتميزون بالتنبه واليقظة والقدرة الشديدة على الملاحظة والتمييز والتفرقة، كما لوحظ عليهم أيضا أنهم يميلون إلى الأعمال الصعبة والشائكة، ويتبرمون جداً من كل عمل روتيني وسهل، وفيهم ميل إلى تطلع عجيب لكل ما هو فكري وعلمي وثقافي، وهذه الفئة تتسم بالضبط العقلي والنفسي فلديهم قدرة شديدة على كبت انفعالاتهم وضبط اعصابهم ومشاعرهم، وبالتالي هم ميالون إلى الهدوء والسكينة وحب السلام والتواضع لغيرهم، فلا يباهون أحداً بقدراتهم العقلانية أو الجسمانية، وهذه الفئة الموهوبة لها قدرة عجيبة على تنفيذ الأوامر، وتطبيق التعاليم، لا سيما ان نضجهم العقلي يحقق لهم الأمان النفسي، ثم هم هادئون جداً، يولد الهدوء فيهم شعورهم بالقدرة على الإبداع والابتكار، وقد تنبه التربويون إلى ان هذه الفئة من الأطفال لديها مثاليات عالية، وقيم أخلاقية ناضجة، فهم يكرهون الغش والتدليس، ويأبون الاحتيال، وينادون بالقيم الخلاقة، لأنهم يؤهلون أنفسهم لأدوار قيادية مستقبلية بارزة، وتربية هذا النوع من المبتكرين تقوم على عاتق شيئين مهمين أولهما: الوالدان، وثانيهما: المعلمون، فالوالدان عليهما ملاحظة النمو العقلي والفكري المبكرين لطفلهما، فهو طفل سؤول، له لسان عقول، تساؤله منطقي، ومحبته المبكرة للتعرف والاكتشاف ملحاحة، فهو ينطق كلمات فصيحات يتفوق بها على من هو في مثل عمره، وعلى هو من بني جنسه، والمعلمون عليهم رعاية هذا المبدع، وعلى القيادات العليا في الدول ان توفر معلمين ذوي نمط تعليمي وثقافي عال جدا، يستطيعون إدارة دفة القيادة لتوجيه هذه الشرائح المبتكرة من النشء المسلم الصغير، ينمونهم عقليا، ويزودونهم علمياً، ويتفهمونهم نفسيا، ويعلونهم اجتماعياً، خاصة في المرحلتين الإعدادية والثانوية. وفي آخر مطافنا السريع هل يحق لنا أن نوجه لأنفسنا أسئلة صريحة، ونجيب عليها إجابة فاحصة كاشفة سريعة أيضاً: ما موقعنا من خلال هذه الشرائح والفئات والشعوب والأمم؟ ثم : هل نحن مبدعون ومبتكرون؟ أم نحن أمعيون ومقلدون؟ ثم ما هي بدايات التقليد عندنا أو الابتكار والاختراع والابداع؟ وهل نستطيع أن نعتبر الشاعر العباسي الكبير أبا نواس هو رائد الابتكار الاول، وهادم التقليد الأسبق؟ وذلك حينما ثار على الوقوف على الطلل، ونعي الآثار السالفات، والرسوم الدارسات، وهل هو من فتح باب الابتكار والاختراع للعقل البشري على مصراعيه، حين قال في قصيدته التي مطلعها: ما لي بدارٍ خلت من أهلها شُغُل ولا شجاني لها شخصٌ ولا طللُ ويقول فيها: لا الحزنُ مني برأي العين أعرفهُ وليس يعرفني سهل ولا جبلُ لا أنعتُ الروض إلا ما رأيت به قصراً منيفاً عليه النخلُ مشتملُ فهاك من صفتي إن كنت مختبراً ومخبراً نفراً عني إذا سألوا مراجع المقالة: فيض الخاطر للأديب الكبير الدكتور أحمد أمين، الطبعة الأولى مارس 1955، مكتبة النهضة المصرية. مختار الصحاح للرازي. تعليم الأطفال الموهوبين تأليف زيدان ومفيد نجيب حواشين، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر في عمانالأردن. برنامج د, راشد, تنمية قدرات الابتكار لدى الأطفال، تأليف د, علي راشد، ط, دار الفكر العربي.