أوصت دراسة شرعية متخصصة بأن تقوم المجامع الفقهية الإسلامية ومجالس الإفتاء في الدول الإسلامية بدراسة واقع جميع المسائل المستجدة التي تهم المسلمين، وتطبيق القواعد الفقهية على هذه المسائل، والاجتهاد فيها حتى تتضح الصورة في التعامل مع هذه المعاملات الطارئة، مؤكداً أن تطبيق ما توصل إليه العلماء - سواء في المجامع الفقهية أو مجالس الإفتاء- في حكمهم على هذه المسائل بمنع ما كان محرماً, وإجازة ما كان حلالاً وتنظيمه, ونشر ذلك عبر وزارتي التربية والتعليم في مراحل التعليم الإعدادي والثانوي والجامعي, كما يحبذ توعية ذلك عبر برامج القنوات الفضائية من ذوي الاختصاصات الإعلامية. وطالبت الدراسة التي أعدها الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله العمار بعنوان: (المصالح المرسلة، وأثرها في المعاملات) - أن تزيد البنوك من اهتمامها بالناحية الشرعية, فتجمع الفقهاء والاقتصاديين في كل معاملة جديدة وعقد جديد؛ حتى لا يتم بها إلا بعد التأكد التام من شرعية هذه العقود، داعياً الدول الإسلامية إلى أن تقوم بتشجيع البنوك والشركات التي تقوم على المعاملات الإسلامية الصحيحة. وحث البحث الدول الإسلامية على العمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين, حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة. وأكد الدكتور العمار في بحثه شمول الشريعة الإسلامية لأفعال المكلفين, مع رعايتها لمصالحهم, وعموم هذا الشمول للزمان والمكان وجميع أحوال الإنسان, ذلك بسبب من طبيعة مصادرها وتنوعها, وأحوال جملة نصوصها, وقيام علماء الإسلام العدول على استنباط أحكامها, وتنزيل النصوص على جزئيات الحوادث. وأوضح البحث أن من أهم أسباب شمول الشريعة جمعها بين المرونة والثبات، وأن المصلحة بالمعنى الأصولي ملازمة لمقاصد الشارع ولا يتصور انفكاكها عنها، وأن المقصود بالمصلحة هو المحافظة على مقصود الشرع, وهي خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم, وأنفسهم, وعقلهم, ونسلهم, ومالهم, فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة. وشدد فضيلته على أن الشريعة الإسلامية جاءت لحماية مصالح العباد, ورفع الحرج عنهم، وأنه لا تلازم بين المصلحة في عرف الناس وبين المصلحة في عرف الشارع, وإذا ناقضت مصلحة الناس مصلحة الشارع, فإن مصلحة الناس ليست حقيقة بل هي مجرد أهواء وشهوات زينتها النفس وألبستها العادات والتقاليد ثوب المصلحة والمنفعة، مبيناً ثبوت المصالح المرسلة, وأنها أصل من أصول الفقه والاجتهاد والتأويل والترجيح, وتحكيمها والرجوع إليها، وهي داخلة ضمن مقاصد الشرع وراجعة إلى حفظ مقصد من مقاصده. وأفاد الدكتور العمار في بحثه بأهمية المصالح المرسلة وحاجة الفقيه المجتهد إلى اعتبارها في فهم الأحكام والقيام بالتكاليف وأداء الأحكام، معرفاً أن المصلحة المرسلة: هي كل منفعة ملائمة لمقاصد الشرع وما تفرع عنه من قواعد كلية, فهي ما سكتت عنها الشواهد الخاصة, فلم تشهد باعتبارها أو بإلغائها، وأن تكون المصلحة معقولة في ذاتها جرت على المناسبات المعقولة بحيث لو عرضت على العقول تلقتها بالقبول. وخلص فضيلته إلى القول: إن المصالح المرسلة لها حجَتها وقد أقرها جمهور من الأئمة والعلماء بجواز التشريع بناء عليها، ومنهم الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل, واستندوا في ذلك إلى أن الوقائع غير ثابتة والبيئات متغيرة والمصالح غير متناهية, فقد تطرأ على الأمة اللاحقة طوارئ لم تطرأ للأمة السابقة، وقد تستوجب البيئة مصالح ما كانت تستوجبها من قبل, وقد يؤدي تغيير أخلاق الناس إلى أن يصبح مفسدة ما كان في السابق مصلحة, فلو لم نفتح الباب في الأخذ بالمصلحة المرسلة لضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد، مؤكداً أن لا اعتبار للمصالح المرسلة إلا في الأحكام معقولة المعنى كأحكام المعاملات، أما العبادات فلا اعتبار للمصلحة المرسلة فيها. وبين الباحث في خلاصة بحثه أن الفقهاء اشترطوا شروطاً ثلاثة للمصالح المرسلة، الأول: لابد من أن يتحقق من بناء التشريع على المصلحة المرسلة جلب مصلحة أو درء مفسدة, ومثال ذلك: تسجيل العقود؛ فإنه يقلل من شهادة الزور, وتسعير السلع في الأزمات الاقتصادية ؛ فإنه يكبح جماح الجشع أو توهم التحقيق لجلب منفعة أو دفع ضرر, فهذا ما لا يصح أن نقول عنه من المصالح المرسلة، والثاني: أن تكون المصلحة التي يشرع الحكم من أجلها كلية لا جزئية, فلا بد أن تشمل أكبر عدد من الناس تجلب لهم النفع وتدفع عنهم الضرر, فلا يصح حكم بناء على مصلحة خاصة لعظيم من العظماء بقطع النظر عن بقية الأفراد، والشرط الثالث: أن لا يعارض التشريع الذي روعيت فيه المصلحة حكماً أو مبدأ ثبت بالنص أو بالإجماع: فلا يصح اعتبار المصلحة التي تقتضي مساواة الابن و البنت في الميراث؛ لأن هذه مصلحة ملغاة لمعارضتها لنص صريح من القرآن الكريم. ونبه فضيلته إلى أن العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر, لا بما في ظن المكلف, وهذه القاعدة تنص تصحيح تصرفات المكلف في مجال العقود بالنظر إلى المال وحقيقة الأمر, بغض النظر عن ظن المكلف، وأن المعاملات المالية ضرب من الأحكام التي يسوغ فيها الاجتهاد ؛ وذلك لأن المعاملات معقولة المعنى، ويمكن الوقوف على الحكم والمعاني المناسبة لتشريع أحكامها, وما ذاك إلا لأنها ضرب من العادات, والأصل في العادات التعليل، وأن سمة وسائل المعاملات المالية هي التبدل والتغير والتطور بحسب الأزمنة والأمكنة, والأحوال والعادات والأعراف الجارية, وما كان هذا شأنه فلا سبيل إلى إدراك أحكامه إلا بالاجتهاد؛ لأن إغلاق باب الاجتهاد فيه يؤدي إلى حصول المشقة والحرج على الناس, والإسلام جاء بالتيسير والتخفيف عليهم خصوصاً فيما يتعلق بهذا النوع من الأحكام. وكشف الدكتور العمار أن المعاملات المالية المعاصرة تُعد مناخاً خصباً للاجتهاد, على اعتبار كثرة العقود والمعاملات المستحدثة، إضافة إلى التطور المتسارع في الأساليب والوسائل التي يتم التعاقد بواسطتها، وأن باب المصلحة هو الوسيلة القوية في الاجتهاد في المعاملات المالية قديمة أو معاصرة، لذا فللمصلحة المرسلة أثر كبير في المعاملات المالية الفقهية، ولا سيما أن القواعد الفقهية المبنية على هذا الدليل كان لها حضور قوي في مختلف أبواب الفقه ومسائلة المتنوعة. وأفاد الباحث أن الإسلام في تشريعه لعقود المعاملات المالية من بيع وإجارة وشركة ورهن وهبة راعى حاجات الناس وضروراتهم، فهم لا ستغنون عن التعامل بهذه العقود، وأن عقد الاستصناع:هو « عقد مقاولة مع صاحب الصنعة على أن يعمل شيئاً», وقد اعتبر العلماء هذا العقد من المصالح المرسلة، مشيراً إلى أنه يمكن تطبيق عقد الاستصناع للتمويل في جميع المشروعات الصناعية, وهذا هو مجال واسع للبنوك الإسلامية بأن تقوم بتمويل هذه المشروعات الصناعية، وشراء المصنوعات على أساس عقد الاستصناع, وكذلك مشروعات البناء ونحوها مما فيه صناعة. وشدد البحث على ضرورة الأخذ بالمصالح المرسلة في المصارف الإسلامية من خلال التطبيقات المعاصرة لعقد السلم المشروع بالكتاب والسنة والإجماع, وبذلك يمكن للمصرف الإسلامي أو غيره من المستثمرين أرباب الأموال التوصل من خلال عقد السلم إلى تمويل النشاطات الزراعية والصناعية والتجارية على النظام الفردي ونظام المشروعات الكبيرة, على أن تكون مصلحة المصرف الإسلامي في الحصول على مواد آجلة بسعر عاجل ورخيص نسبياً, ثم يقوم بعد قبضها بتسويقها بثمن الحاصر أو بثمن مؤجل. ورأى الدكتور العمار في بحثه أن التحويلات البنكية أمر جائز لا شبهة فيه؛ لأن ما يأخذه البنك من مصاريف هو مقابل خدمة وعمل يقوم به البنك للعميل، كما يرى أن تقسيط الشراء أمر جائز شرعاً, وقد أجاز جمهور العلماء البيع لأجل مع زيادة الثمن, وهذا ليس رباً وللبائع أن يزيد في الثمن لاعتبارات يراها ما لم تصل إلى حد الاستغلال الفاحش والظلم البين, وإلا صارت حراماً، وأن الأخذ بالمصالح المرسلة في الأسهم والسندات يتضح أن إصدار الأسهم وملكيتها وبيعها وشراءها والتعامل بها حلال لا حرج فيه, ما لم يكن عمل الشركة التي تكونت من مجموع الأسهم مشتملاً على محظور، كصناعة الخمر وبيعها «التجارة فيها مثلاً», أو كانت تتعامل بالفوائد الربوية إقراضاً أو استقراضاً أو نحو ذلك، أما السندات فشأنها غير الأسهم لاشتمالها على الفوائد الربوية المحرمة. وأهاب الباحث بوجوب الأخذ بالمصلحة المرسلة في المظاهر الحديثة ل «الهبة» ومنها التبرع بالأعضاء, والتبرع بالدم ونقله من إنسان لإنسان آخر, طبقاً للشروط، وكذا ضرورة الأخذ بالمصالح في التأمين ضد الحوادث؛ لأن هذا النظام مع التقدم الصناعي فإن تطبيقه فيه مقومات التكافل الاجتماعي, بمعنى أن يدفع مالك السيارة أو المصنع اشتراكاً شهرياً أو سنوياً ويؤمن على مصنعه أو سيارته بمبلغ تحدده اللائحة المنظمة لمثل هذا العمل المستحدث, وبهذا يتضامن الجميع في المشاركة الفعلية لأي إنسان, ولا حرج في ذلك, كما أنه لا حرج أن تقوم شركات التأمين ضد الحوادث باستغلال أموالها في أي مشروع استثماري بأي نظام بشرط أن لا يستغل المال في أشياء محرمة. واختتم الدكتور العمار بحثه بالتأكيد على أهمية الأخذ بالمصالح المرسلة في التأمين الصحي لموظفي الدولة ومن في حكمهم, فهو نظام قائم على المساعدة ورفع العبء عن الفقراء, ولا ضرر فيه لأنه في المقام الأول يرتكز على مصلحة الأفراد ولا مانع من استغلال موارد التأمين الصحي في الأمور المباحة شرعاً.