الحج إلى بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام، وأول عمل يبدأ به الحاج نية الدخول في النسك، وهذه النية لا بد أن تكون في أمكنة وأزمنة حددها الشرع، وهي ما تسمى بالمواقيت الزمانية والمكانية. فالميقات الزماني للإحرام بالحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والأصل في ذلك قول الله تعالى: (الحج أشهر معلومات). وأورد البخاري في صحيحه تفسير ابن عمر للأشهر المعلومات حيث قال: «وقال ابن عمر رضي الله عنهما أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة». ويكره الإحرام بالحج قبل هلال شوال؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «من السَُنَّة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره» رواه البخاري. ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها، فأشبه ما لو أحرم قبل الميقات المكاني، فإن أحرم بالحج قبل أشهره انعقد، ويدل لصحة إحرامه بالحج قبل أشهره قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) وكلها مواقيت للناس، فكذا للحج، خلافاً لمن ذهب إلى أنه لا يصح حجاً بل عمرة، كما هو مذهب الشافعية واختيار بعض العلماء. وأما المواقيت المكانية، هي الحدود التي لا يجوز للحاج أن يتعداها إلى مكة بدون إحرام، وهي خمسة: 1- ذو الحليفة: وتبعد عن مكة أربع مئة وثمانية وعشرين كيلو مترا، وهي ميقات أهل المدينة وهي أبعد المواقيت، ومكانها في وادي العقيق، والحليفة تصغير حلفة والحلفة واحدة الحلفاء شجر معروف وسميت بذلك لكثرة هذه الشجرة فيها، وهذا الميقات مشهور عند العوام بأبيار علي لظنهم أن علياً قاتل الجن بها وهو كذب. قال شيخ الإسلام: «العامة تسمي البئر - بئر علي - لظنهم أن علياً قاتل الجن بها وهذا كذب، فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة وعلي أرفع قدراً من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذا البئر ولا مذمة، ولا يستحب أن يرمى بها حجراً ولا غيره». *. وبينها وبين مكة قرابة أربع مئة وعشرة كيلو مترات تقريباً. 2- الجحفة: وهي قرية على طريق المدينة خربة، قرب رابغ، وكان اسمها مهيعة، فجحف السيل بأهلها فسميت بذلك. وهي المدينة التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة أن ينقل الله حمى المدينة إلى الجحفة فانتقلت الحمى إليها، فتلف أهلها ونزح الناس عنها. وصار الناس يحرمون قبلها من رابغ، وهي ميقات ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب وأهل إفريقيا والسبب في ذلك أن الناس كانوا يقدمون عن طريق البر فيأتون من أعلى العقبة قبل فتح القناة فكانوا ينزلون بطريق الساحل فيمرون برابغ ولا يمرون بالمدينة. وبينها وبين مكة ثلاث مراحل أي ثلاثة أيام، وهي ثاني أبعد المواقيت عن مكة، في حدود 200 كم. 3- قرن المنازل: وهو اسم جبل وهو بعد قرن الثعالب الذي أفاض فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما طرده أهل الطائف. وهو ميقات أهل نجد مشهور الآن بالسيل الكبير، وهو بين مكةوالطائف وتبعد عنه مكة 70 كم. 4- يلملم: قيل إنه اسم لمكان، وقيل اسم لجبل في هذا المكان. وهو ميقات أهل اليمن ويسمى الآن بالسعدية على طريق الساحل من الحجاز وبينه وبين مكة قرابة 70 كم. 5- ذات عرق: مكان بالبادية قرب عقيق الطائف، سمي بذلك لعرق فيه والعرق هو الجبل ويقولون إنه منتهى جبال تهامة يفصل بين جبال تهامة ونجد وهو ميقات أهل العراق ومن وراءهم من أهل المشرق كأهل خراسان وغيرهم. وهي مندثرة اليوم ويحرم الحجاج الذين يأتون في السابق على الإبل من الضريبة التي يقال لها اليوم - الخريبات - أما اليوم فالحجاج يأتون بسياراتهم ويمرون إما على ذي الحليفة أو السيل فيحرمون من أحدهما ويبعد عن مكة 70 كم. فالواجب على من مر على هذه المواقيت قاصداً الحج أو العمرة أن يحرم منها، ومن جاوز الميقات بلا إحرام وجب عليه الرجوع، فإن لم يرجع فهو آثم وعليه دم، وهو سبع بقرة، أو سبع بدنة، أو رأس من الغنم يجزئ في الأضحية؛ لحديث ابن عباس المتقدم، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: «من ترك نسكا أو نسيه فليهرق دماً» أخرجه مالك في الموطأ. وينقسم الناس بالنسبة للميقات المكاني في الحج إلى ثلاثة أقسام: الأول: الآفاقيون: وهم من مسكنه خارج المواقيت الخمسة الآنفة الذكر، فمن مر منهم بأحد هذه المواقيت الخمسة مريداً للحج أو العمرة فيجب عليه أن يحرم منه. الثاني: أهل مكة. وهم الذين يقيمون في مكة سواء كانوا مكيين من أهلها أو مقيمين فيها من غير أهلها. فهؤلاء يحرمون بالحج من مكة؛ لما رواه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: «حتى أهل مكة يهلون منها» وفي لفظ: «حتى أهل مكة من مكة». وأما إحرام المكي بالعمرة فيكون من أي مكان خارج الحرم، من التنعيم أو عرفات أو الجعرانة أو الشميس أو غير ذلك من الأمكنة خارج الحرم؛ ولذلك ثبت في الصحيحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة رضي الله عنها من التنعيم. الثالث: من كان مسكنه داخل المواقيت الخمسة، أي بين مكة والميقات، كأهل جدة وبحرة والشرائع، فميقاته من موضع سكنه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: «فمن كان دونهن فمهله من أهله» وفي لفظ: «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ». وقد أخطأ من جعل جدة ميقاتاً للوافدين إليها ممن يريدون الحج أو العمرة، فهي ليست من المواقيت الخمسة المذكورة آنفاً، فلا يحل للحاج أو المعتمر القادم بطريق البر أو البحر أو الجو أن يؤخر إحرامه إلى أن يصل إليها، بل لا بد أن يحرم من الميقات الذي يمر به. أما من جاء إلى جدة غير ناوٍ للحج أو العمرة، كمن جاء للدراسة أو للتجارة، ثم نوى الحج أو العمرة بعد إقامته فيها فإن حكمه في ذلك حكم أهلها. ومن مر بأحد المواقيت الخمسة وهو لا يريد حجاً ولا عمرة، ولكن بعدما تجاوزها عزم على الحج أو العمرة، فإنه يحرم من المكان الذي نوى منه ولا يرجع للميقات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ» متفق عليه. ومن لم يمر بميقات من المواقيت الخمسة فإنه يحرم عند محاذاتها، براً أو بحراً أو جواً، وإن أحرم قبل ميقاته صح وخالف الأولى. قال ابن المنذر رحمه الله في الإجماع: «وأجمعوا على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم». هذا ما تيسر بيانه من أحكام مواقيت الحج، وأسأل الله العلي القدير أن يحفظ حجاج بيته الحرام، وأن يجعل حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً. إنه جواد كريم.