لنطو صفحات التاريخ، ونعد تقويم الزمان، فنعود قرونا قد خلت إلى المدينة النبوية يعلوها سناء الإيمان، ويخفق فوقها لواء التقوى، ويجري في أرجائها سلسبيل القرآن. ولننصب آلات التصوير الإيمانية، على ركن من أركان الحديقة النبوية، حيث أنتجت مزرعة الحق ثمرات مختلفا ألوانها من رجال، ونساء، لا يتكررون، وجيل أفراده لا يُدرَكون، فيمشي أحدهم يطأ الأرض برجليه، ويرى الدنيا بعينيه، ويسمع الأحاديث بأذنيه، ويتكلم بشفتيه، وهو من أهل الجنة، يقطف من ثمرها ويتذوق طعمها، ويشم عبير رائحتها، وهو لما يزل يتنفس برئتيه. فكيف يكون شعوره ؟ وهو يشم عبق ريح الفردوس، وليس بينه وبينها إلا أن تخرج نفسه التي بين جنبيه. تعالوا معي لأنقل لكم في بث مباشر يبعث الحياة في القلوب، ويشعل شوق النفس المسرفة لكي تتوب، فأسرد لكم فيها سيرة امرأة، كانت فقيهة النساء، وحبيبة سيد الأنبياء، صلى الله عليه وسلم، ونبتة زرعتها يداه الشريفتان، سقتها، ورعتها، حتى استوت على ساقها تسامي بشرفها نجوم السماء، وعينا نبعت من بين يديه الشريفتين، فتفجرت هدياً زلالاً، يسقي منه من أراد الله هدايته فيروى، فسيرتهم بحق أشبه ما تكون بماء زمزم، طعام طعم وشفاء سقم، يطعم الأرواح زادا من التقى، ويشفي القلوبَ ما تحمله من بلسم الهدى. هي الصديقة بنت الصديق، عائشة بنت أبي بكر، القرشية، التيمية، المكية، النبوية، أم المؤمنين، وزوجة سيد المرسلين، وحبيبة قلبه، أفقه نساء المسلمين. هاجر بها أبواها، وكانت قد سعدت بأن تكون زوجة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قبل هجرتها، إذ تزوج بها عليه الصلاة والسلام بعد وفاة أم المؤمنين خديجة، رضي الله عنها. تزوج بها وبسودة بنت زمعة، رضي الله عنها، في وقت واحد، ثم دخل بسودة، فبقي معها ثلاثة أعوام، حتى بنى بعائشة في شوال، بعد الهجرة، في السنة الثانية منها. بعد غزوة بدر، وكان عمرها تسع سنوات. فكان صغر سنها، وبقاؤها بعده عمرا، سببا وحكمة من الله تعالى، إذ روت عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم- علما كثيرا، طيبا مباركا فيه. كما روت عن أبيها، وعن عمر، رضي الله عنها وعنهما. وروى عنها خلق لا يحصون من أهل الفقه والرواية. وكانت رضي الله عنها ممن ولد في الإسلام، تقول: «لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين». وذكرت أنها أدركت سائس الفيل بمكة شيخاً أعمى يستعطي. أي: يسأل الناس، وكانت رضي الله عنها بيضاء جميلة، مشرقة الوجه، وانفردت بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج بكرا غيرها. ولا أحب امرأة حبها. يقول الإمام الذهبي عنها: ولا أعلم في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل ولا في النساء مطلقا، امرأة أعلم منها! وذهب بعض العلماء إلى أنها أفضل من أبيها، وهذا مردود، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، بل نشهد أنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا، والآخرة، فهل فوق هذا مفخر؟ وإن كان للصديقة خديجة شأو لا يلحق، وأنا واقف في أيتهما أفضل. نعم جزمت بأفضلية خديجة عليها لأمور ليس هذا موضعها. اه. كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة حبا شديدا، حبا كان يظهره ولا يخفيه، سأله عمرو بن العاص، رضي الله عنه، وكان أسلم في السنة الثامنة من الهجرة: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة! قال: فمن الرجال؟ قال: «أبوها». وإن من شبه القوم المبغضين للصديقة رضي الله عنها، تشبيههم إياها بامرأة لوط، عليه السلام، وحاشاه بأبي هو وأمي أن يحب إلا طيبا، فلم يكن زواجه صلى الله عليه وسلم بها وليد صدفة، أو رغبة ما،، لا. لقد كان زواجها اختيار الله تعالى لنبيه وخيرة خلقه، فلم يكن نبي الله عليه الصلاة والسلام هو الذي اختارها لرغبة مسبقة أو حتى لحب مصاهرة حبيبه وصديق دربه الصديق الأكبر، إنه أمر إلهي وقضاء رباني، إنه شيء أحبه الله فقدره وقضاه لحكم إلهية كثيرة، يثبت ذلك ما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «أريتك في المنام ثلاث ليال؛ جاءني بك المَلك في سَرَقةٍ من حرير فيقول هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول: إن يَك هذا من عند الله يُمْضه». ولا غرو بعد هذا أن تكون حبه الذي ينبض به قلبه، وقرة عينه التي لا تنعم ولا تطيب الحياة إلا بالقرب منها، حتى كان عليه الصلاة والسلام يتفقد مبيته ويسأله عن ليلته أين هي شوقاً لأمنا رضي الله عنها واستبطاءً ليومها. فيطوي العمر طيا كي يراها ويهنا في ربا روض وزهر وإنك لتعجب أن يمر شخص بمثل هذه الأحداث الجسام المؤلمات التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلبه ما زال يخفق بحبها رضي الله عنها. أسجنا وشوقا واشتياقا وغربة ونأي حبيب إن ذا لعظيمُ وإن امرأ دامت مواثيق عهده على مثل ما قاسيته لكريمُ وقد كان واللهِ يحبها رغم أنف الحاقدين، ويحب أباها أيضا, كما قال صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل. فكان حبه لأبي بكر معروفا، ولا ريب أن أبا بكر أفضل أمته صلى الله عليه وسلم، وهي أفضل امرأة في أمته، بعد خديجة، فكل مبغض لحبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيق أن يبغضه الله، وأن يمقته، وأن لا يجمعه بهم في مكان واحد أبدا، فلما ضمن الصديق وابنته جنة النعيم، فلا مأوى لمن أبغضهما سوى نار الجحيم. ولقد استفاض حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة رضي الله عنها، وكان الصحب الكرام يتحرون يومها لهداياهم، يتقربون بذلك إلى مرضاته صلى الله عليه وسلم. ففي الصحيح من حديثها رضي الله عنها: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس: أن يهدوا إليه حيثما كان، أو حيثما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها. متفق عليه. قال الإمام الذهبي معلقا على الحديث: وهذا الجواب منه، دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي، وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها. اه. ومن فضائلها قوله صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» متفق عليه. وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. متفق عليه. وأخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال: أما إنك منهن. قالت: فخيل إلي أن ذاك لأنه لم يتزوج بكراً غيري. وفي صحيح البخاري، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا عائش، هذا جبريل وهو يقرأ عليك السلام» قالت: وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى يا رسول الله. وفي مسند الإمام أحمد، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: رأيتك يا رسول الله وأنت قائم تكلم دحية الكلبي. فقال: وقد رأيته؟ قالت: نعم. قال: فإنه جبريل، وهو يقرئك السلام. قالت: وعليه السلام ورحمة الله، جزاه الله من زائر ودخيل، فنعم الصاحب، ونعم الدخيل. تقول رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العظم فأتعرقه، ثم يأخذه، فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي. رواه مسلم. وفي صحيح البخاري من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: إنها لزوجة نبينا في الدنيا والآخرة. وفي لفظ: أشهد بالله إنها لزوجته. استأذن ابن عباس رضي الله عنهما، على عائشة وهي في الموت، فلما قعد قال لها: أبشري، فوالله ما بينك وبين أن تفارقي كل نصب، وتلقي محمدا صلى الله عليه وسلم والأحبة، إلا أن تفارق روحك جسدك. قالت: إيها، يا ابن عباس! قال: كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني إليه - ولم يكن يحب إلا طيبا، سقطت قلادتك ليلة الأبواء وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله ?فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً? فكان ذلك من سببك، وما أنزل الله بهذه الأمة من الرخصة، ثم أنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فأصبح ليس من مسجد من مساجد يذكر فيها الله إلا براءتك تتلى فيه، آناء الليل والنهار. فهذه الكلمات في فضل عائشة رضي الله عنها، سطرتها، اعتذارا منها، فهي أمنا الحبيبة، أمنا التي لم تلدنا، ولكنها أمنا الشرعية، أمنا الدينية، كما في نص كتاب الله تعالى من سورة الأحزاب ?النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ? حبيبة حبيب القلب صلى الله عليه وسلم، وابنة رفيق دربه، وصديق عمره، وخليفته، التي كانت أحب الناس إليه، فكم في أعناقنا لها من واجب البر والإحسان! ولقد اختصرت فضائلها، ولخصت مناقبها، وتركت منها الكثير، إذ إن فضلها مما لا يحتاج إلى دليل، يكفيها فخرا أنها كانت أحب الناس إلى القلب الطاهر الذي لا يقع فيه إلا طيب، إنها حبيبة القلب الذي أرسل له جبريل فشق صدره ومسحه ليكون آية في الطهر والنقاء، فشُق صدره طفلاً صغيراً وهو في بني ساعدة، ليزداد طهارة إلى نقاء الطفولة وطهارتها، ثم شق صدره عند البعثة، ثم شق في السموات العلى. ألا ترى هذه العناية الإلهية بقلب هذا الرسول الكريم، فماذا عسى تظن أن يعشق مثل هذا القلب؟!! المملوء طهارة، المغسول بماء زمزم! بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم. لقد أكرمها المولى جلَّ وعلا بأن جعل روح القدس يقرؤها السلام، ويقبض ملك الموت روح نبيه ومصطفاه وهو بين سحرها ونحرها، وفي يومها، ويدفن في بيتها، ولم يتزوج عليه الصلاة والسلام بكراً غيرها، فتربت بين أحضانه، وتحت كنفه، وعلى دينه وسنته، بل لقد نقلت لنا من سنته في بيته ما لا نقدر أن نجزيها عليه لو قبلنا يديها ورجليها كل صبح ومساء، ولو ترضَّينا عنها كل عشية وضحاها! فعذرا أمنا الحبيبة، رضي الله عنك، عذراً فقد تطاول سفهاء من الناس فأساء إليك، وقذف عرضك الطاهر، ورماك بما لم ترم به أشد النساء بغاء، وأكثرهن فسقاً ومجونا، بله أن يكون المرمي من نالت شرف الطهارة، بآيات من الكتاب المبين، وختم عليها بخاتم رب العالمين، فكانت عفتها شهادة من عالم الغيب والشهادة، وهي شهادة نعجز أن نضمنها لأنفسنا، والله إنا لنشك في أنفسنا ولا نشك فيك، ونعلم أنا نستتر عن عيون الناس كي لا يروا عيوبنا، ولا يعلموا بذنوبنا، وأنت يشهد لك مولاك، وباعث زوجك الحبيب، صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، نورا، وهدى، ورحمة للعالمين، بأن من نال منك قد اقترف الإفك المبين! وإننا لنبرأ إلى الله - ومنك - مما فعل السفهاء، وبين يدي ربنا سيكون اللقاء، وسيعلم المسيء حينها أن الندامة لا تنفعه، ولا البكاء. وإننا نشهد الله وملائكته، وحملة عرشه، وجميع خلقه على محبة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومحبة أبيها، ومحبة جميع أمهات المؤمنين، ومحبة الصحب الكرام، والترضي عنهم، ولا ندعي عصمتهم، ولكنهم خيار هذه الأمة، وقمم الاتباع فيها، فما كان لهم من سيئات فإنها تذوب في بحار حسناتهم، ويغطيها صبرهم وجهادهم، وبذلهم وعطاؤهم، وتمحوها دماؤهم الزكية، ودموعهم السخية، وإخلاص قلوبهم النقية، وكل فضل نرتع فيه فلهم منه أوفر الحظ وأجزل النصيب، وما نالنا إلا الفضلة والبقية. فيا ذا الجلال والإكرام اجمعنا بها، وبزوجها صلى الله عليه وسلم، وبوالدها في الفردوس الأعلى بحبنا لهم، وشوقنا إليها. يا أرحم الراحمين.