يعدُّ القاص «سليمان المعمري» من أبرز كُتّاب القصة الشباب في سلطنة عمان، وهو يشغل موقع رئيس قسم البرامج الثقافية بإذاعة عمان، كما أنه أول كاتب عربي يفوز بجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة، في دورتها الأولى بالقاهرة عام 2007. أصدر المعمري ثلاث مجموعات قصصية منها «ربما لأنه رجل مهزوم» و»أقرب مما تبدو في المرآة»، وهو يحتفي في كتاباته بالقيم الإنسانية، وتتمتع قصصه بلغة شعرية مكثفة.. هنا حوار أدبي مع سليمان المعمري أثناء زيارته للقاهرة: لماذا تصرُّ على كتابة القصة القصيرة في الوقت الذي يروج فيه الكثيرون لمقولة «زمن الرواية»؟ - كثيراً ما تتردد عبارة «زمن الرواية» حتى صارت أشبة بالمسلَّمة في الساحة الثقافية، ولدي تحفُّظ كبير على هذه العبارة؛ فنحن في «زمن الإبداع»، بمعنى أن ازدهار أي فن أدبي لا يعني بالضرورة انحسار فن أدبي آخر. طُلب مني ذات مرة أن أكتب شهادة عن تجربتي القصصية؛ فكان عنوانها «لماذا أنت بالذات أيتها القصة؟»، وتساءلت فيها لماذا سيارة القصة بالذات هي التي ظل محركها يعمل لدي طوال هذه السنوات، وأنا الذي كنت أقودها في معظم الأحيان على غير هدى، وغير مسلح سوى بالشك والارتياب في الطريق الذي أسلكه، في حين تعطلت سيارات أخرى كنت أحاول قيادتها من قبل بشك أقل ويقين أكثر، كالشعر والمسرح، على سبيل المثال، ووجدتني أخلص إلى ترديد مقولة (كافكا) «ماذا يمكن أن يجذبني إلى هذه الأرض المهجورة سوى الرغبة في أن أمكث هنا». القصة بالنسبة إليّ طريقة لحفظ التوازن وترميم النفس وتعويض الخسارات.. لم أهدف حين دخلت عالم القصة إلى أن أكتب قصة فنية، بقدر ما كنت أهدف إلى إعادة صنع حياة، لم أعشها كما ينبغي، وأن أبني عوالم وأهدمها، ثم أتنفس الصعداء قائلا: ها قد كنت. القصة ابنة النَّفَس القصير الذي يشبه نَفَسي، أما الرواية فتحتاج إلى صبر ونَفَس طويلين، ومع ذلك فإنني أشدد دائماً على أن القصة القصيرة لا تقل أهمية عن الرواية، ولا فرق بينهما إلا في التقنيات، وأؤمن بأن قصة واحدة جيدة خير من عشر روايات رديئة. يرى البعض أن هناك شروطاً لا بد من توافرها في النص القصصي؛ حتى تصح تسميته «قصة قصيرة»، فهل تعتقد أن مثل هذه الضوابط تخدم هذا الفن الإبداعي وتساعد على انتشاره؟ - لا أذكر مَنْ قال إن القوانين تُخترع من أجل انتهاكها، وهذا لا يعني أن يترك الحبل على الغارب، لكل من يزعم التجريب، بحجة أن الإبداع لا ضوابط له.. هناك بديهيات متعارف عليها في كل فن أدبي، تحفظ له خصوصيته، التي تميزه عن غيره من الفنون. من غير المعقول مثلاً أن أستسلم للايثالات اللغوية، وما يعن لي من تداعيات، لا حكاية فيها، ولا شخوص، وأنسبها إلى القصة، بحجة أن الإبداع لا يمكن أن تحده ضوابط. يمكن لكاتب القصة أن يطور هذا الفن الأدبي، ويضع فيه بصمته الخاصة، من دون أن يتخلى عن أهم شروط القصة، وهي وجود حكاية تُحكى. ما ملامح الإدهاش في قصصك؟ - أشبِّه القاص دائماً بسائق السيارة، الذي يستطيع قيادة سيارته بمهارة فائقة، ولكنه لا يعرف كيف ومِمَّ صُنعت، لعل هناك إدهاشاً ما في قصصي، لكن لا يمكنني تحديده، القارئ وحده قد يكتشف ذلك، ولا أعني بهذا القارئ النقاد فقط، بل ربما يكون قارئاً بسيطاً، استوقفه أو أدهشه موقف أو عبارة أو لقطة في قصة ما، في حين أن كاتبها لم يكن ليتوقع هذا الإدهاش. قصصك تشي بشعرية ما بالرغم من جنوح القصة العمانية إلى الحكاية والبُعد عن الزخارف اللغوية، كيف ترى هذا الأمر؟ - أوافقك في أن اللغة الشعرية حاضرة في قصصي، وهذا الأمر نابع من محاولات فاشلة في كتابة الشعر، قبل أن أدخل عالم القصة، وأنا أؤمن بأن الشعر لا يدخل في شيء إلا زانه، كما أنني أردد ما قاله «رسول حمزاتوف» في كتابه المهم «بلدي»: «إن الشعر في القصة كالملح في الطعام». كانت اللغة خلال السنوات العشر الأولى لكتابتي القصصية هي الشغل الشاغل، كنتُ أتوق إلى لغة لا تشبه اللغة، كما كتبت في إحدى قصصي، تتأخر القصة شهوراً؛ لأنني أبحث عن عبارات تمتح من الشعر، عبارات تذهل القارئ، وتجعله يعيد العبارة التي يقرؤها مراراً؛ ليستمتع بجمالها، ثم حدث أن قرأت قصصاً تخرج الشعر من روحها، لا من لغتها، جاء ذلك متزامناً مع تذمر شديد من التهويمات اللغوية غير المفهومة، التي تضج بها القصص العمانية. أما عن ابتعاد القصة العمانية عن الزخرفة اللغوية فهذا لم يحدث إلا في السنوات الأخيرة، تحديداً بعد دخولنا الألفية الثالثة، وكان هذا الاهتمام باللغة الشعرية على حساب الحكاية في كثير من الأحيان، وحين قرأت الشعر في روح القصص، لا في لغتها، قلت لنفسي: القصة ليست لغة فقط، بل حكاية مدهشة، وبعد مجموعتين قصصيتين، أصدرتهما على فترتين متباعدتين، قلت سأجرب لغة أخرى في مجموعة جديدة، بطلها واحد، أسميته «عبدالفتاح المنغلق»، واللغة في هذه المجموعة تستطيع أن تصفها بالسهلة، لا تتوسل الشعر، ولا تنشد سوى التعبير بدقة ووضوح عن المعنى، ومع ذلك وجدت من يقول إن لغة هذه المجموعة لم تبتعد كثيراً عن الشعر. يلاحظ أن هناك إبداعاً قصصياً تكتبه النساء في الخليج يفوق كثيراً من حيث الكمّ نسبة الرجال في هذا المجال الإبداعي، كيف ترى هذا الأمر؟ - الخليج ليس كتلة واحدة، فيما يخص الإبداع القصصي، فمن واقع اطلاع، لا بأس به، على المشهد السردي الخليجي، أقول: إن هناك اختلافات واضحة بين دولة خليجية وأخرى، فإذا أخذنا عمان مثلاً فإنه بإمكاني أن أحصي لك المجموعات القصصية النسائية خلال عشر سنوات بدءاً من العام 1998، وهو العام الذي صدرت فيه أول مجموعة قصصية عمانية لكاتبة أنثى، وهي مجموعة «سبأ» للكاتبة خولة الظاهري، سنجد فقط ست عشرة مجموعة قصصية للسيدات منذ هذا التاريخ حتى العام 2008، في مقابل 42 مجموعة قصصية لكُتّاب عمانيين ذكور. عمان لا ينطبق عليها هذا الوصف، ولكن ربما ينطبق على قصة الإمارات في الألفية الجديدة؛ فقبل عام 2000 كان هناك حضور للقاص الإماراتي، وإذا ظهرت أسماء نسائية فقد ظهرت في الفترة نفسها أسماء كُتّاب رجال للقصة، غير أن هذا التكافؤ تراجع لصالح الكاتبات بدءاً من الألفية الجديدة، وهو أمر جدير بالدراسة حقاً، وإذا ما انتقلنا إلى قطر فإننا سنلحظ أيضاً التفوق الكمي للقاصات الإناث في مقابل الذكور. وإذا ما انتقلنا إلى السعودية فوضعها مختلف تماماً، فالقاصون الذكور أكثر من الإناث، ولكن كتابات النساء، وخاصة الروائية، هي الأشهر؛ ما يعطي انطباعاً بأن القصة السعودية إبداع نسائي، وأنا شخصياً أختلف مع هذا الرأي؛ إذ إن وجود قاصات وروائيات مبدعات كبدرية البشر وأميمة الخميس ورجاء عالم وليلى الجهني وزينب حفني وازاه على الضفة الأخرى كثير من الأسماء المهمة في القصة السعودية من الذكور. والكويت من جهتها بها أسماء نسائية مهمة في القصة كليلى العثمان من الجيل القديم، وباسمة العنزي واستبرق أحمد وميس العثمان من الجيل الحالي، ولكن هذا لا يعني أن القصة الكويتية نسائية، بدليل الأسماء الكثيرة للقاصين والروائيين الكويتيين، الذين كانت لهم بصمات واضحة في الإبداع الكويتي. هل أنت راض عما تقدمه المؤسسات الثقافية الخليجية الحكومية من دعم للكُتّاب الخليجيين؟ - نعم أنا راض إلى حد كبير؛ فهناك أكثر من مشروع لدعم الكاتب الخليجي، في عمان مثلا لدينا مشروع البرنامج الوطني لدعم الكتّاب، الذي يتبنى إصدار مائة كتاب عماني، وتشرف عليه جهات حكومية وخاصة عدة، كالنادي الثقافي والجمعية العمانية للكتّاب والأدباء وجامعة السلطان قابوس للدراسات الإسلامية، وهذا المشروع لا يكتفي بطباعة الكتب مجاناً، لكنه أيضاً يقدم مكافأة مالية جيدة للكاتب، وقبل هذا كان مشروع وزارة التراث والثقافة العمانية للنشر الذي بدأ في العام 2006 عندما كانت مسقط عاصمة للثقافة العربية. وفي الإمارات هناك مشروع جائزة الشارقة للإصدار الأول، ومشروع «كلمة»، وفي الكويت سلسلة «عالم المعرفة» و»إبداعات عالمية»، وهناك مشروعات حكومية أخرى في البحرينوقطر.. من هذا كله نستطيع أن نخلص إلى اهتمام لا يمكن إنكاره بالكتاب والمؤلف الخليجي. هناك خصوصية تاريخية تميز «سلطنة عمان» عن غيرها من دول الخليج.. ما أثر هذه الخصوصية على حركة الإبداع؟ عاشت عمان حقباً تاريخية مليئة بالأحداث، بدءاً بانتقال «مالك بن فهم» إليها بعد انهيار سد مأرب، مروراً بحفاظها على استقلالها السياسي، خلال الحقبتين الأموية والعباسية، وليس انتهاء بتعرضها للغزو البرتغالي في القرن السابع عشر ودخول الإنجليز بعد ذلك، كل هذا كان مصحوباً بحكايات مدهشة عن مقاومة الغزاة، إضافة إلى حكايات عن علماء ورجال دين ومهاجرين، وتوازى هذا مع موقع عمان الجغرافي الذي جعلها تطل على شعوب كثيرة، متماثلة معها في الدين ومختلفة في العادات والتقاليد. وإذا أضفنا إلى ذلك حضور عمان البارز في شرق إفريقيا ووصول بحارتها إلى الصين ندرك إلى أي مدى القاص والروائي العماني يقف على كنز من الحكايات المدهشة، التي من شأنها إثراء الأدب العماني. هناك محاولات للاستفادة من هذا الإرث التاريخي الهائل في النص الإبداعي العماني، ولكن ليس إلى الحد المأمول؛ ربما لأن الطفرة القصصية والروائية في عمان لم تبدأ إلا في السنوات الأخيرة، وإلا فإنني أتوقع أن نرى في المستقبل القريب أعمالاً إبداعية عمانية مهمة مستلهمة من تاريخ عمان العريق.