استنفر سمعي جرس الهاتف وكنت مستغرقاً في القراءة، وجاء صوت محدِّثي من الطرف الآخر، يقول دون مقدِّمات: (.. أنا «....») أعمل مراسلاً لصحيفة (....) وأريد منك تصريحاً عن (....)، وذكر موضوعاً لم يكن لي به علم، فقلت له بنبرة هادئة: - (شكراً للاتصال، ولكن لا عِلمَ لي بما ذكرت حتى أنبئك بما لم تعلم).. فردّ في ثقة قائلاً قبل أن أُكمل الرد على سؤاله الأول: - (لكني لم آتك، إلاّ بعد أن (تلقّفت) أذناي الإشاعةَ مراراً عمّا سألتك عنه، وأحسب أنّ للإشاعة (نصيباً) من يقين وإلاّ ما كنت سألتك أصلاً)!! فأجبته بنبرة جادّة: - (تظلُّ الإشاعة إشاعة حتى تُقهر بالباطل، أو تَظهر باليقين، لكن أن تحسب الإشاعة جزءاً من يقين، فمسألة فيها ألفُ نظر!). *** * قلت ذلك وأنا أتمنى أن ينتهي الحديث بيننا عند هذا الحد، وأعود إلى شأني، لكنه كرّر السؤال في نبرة يتقاسمها الجَدَل والإصرار قائلاً: - (لم أهاتفك يا أستاذ لتسرد على سمعي مقارنة بين الإشاعة واليقين، كلُّ ما أريده منك هو نفي الإشاعة التي أسمعتك إيّاها أو إثباتها). *** * فقلت له وأنا أحاول الاحتفاظ بما بقيَ لي من هدوء: - (لا نفي لك عندي ولا إثباتاً ...) فقاطعني قائلاً: ... - (حسناً إذن، سأطرح في عدد الغد من صحيفتي (...) نبأً منسوباً إليك يقول الأتي: (فلان يصرّح بأنه لا صحة لما أشيع عن أمر كذا .. وكذا)!. * قلت له، وقد علا صوتي وقَسَتْ نبرتي: - لماذا تصرُّ يا هذا على إقحامي في (مغامرة) فضولك الصحفي، أنا لم أقل شيئاً ترويه عني، لا نفياً ولا إثباتاً. كلُّ ما قلتُه عبر الدقائق الماضية هو أنني لا أملك ما أُشبع به فضولك وكفى! *** * لم أشأ أن أمنح ضيفي (الملقوف) فرصة المقاطعة، فأردفتُ قائلاً: - إنني لا أفهم سلوك بعضكم معشر الصحفيين، إذا لم تعثروا على نبأ، ترفعون به هاماتكم في (بلاط) التحرير، أنشأتم نبأً من (بنات) ظنِّكم، وألبستُموه (ثوب) الإشاعة، ترهقون به سمع مسئول أو شبه مسئول، فإن هو أنكر الإشاعة، ضُغتُم على لسانه نبأً ينفيها، وإن تأوّل حولَها نَسَبْتُم إليه ما يوحي بالظن في صِحّتها، من حيث لم يقطع هو حولها بحق أو باطل، والبعض الآخر منكم يلتقط نبأً قد يكون في أصله صحيحاً، منشأً ومضموناً، لكن ناقله لا يحسن فَهْم النبأ أو صياغته، أو الاثنين معاً، فيخرج على الملأ في اليوم التالي مشوّهاً أو مبتوراً، ويكون المسئول (مصدر النبأ) في موقف لا يُحسَد عليه أو يُحمَد له!! *** * في هذه اللحظة، كان حلم الصحفي قد فاق حدّه، وانتهز فرصة صمتي، ليعلِّق على حديثي له قائلاً: - (يبدو أنه لا جدوى من الحوار معك حول موضوع هذه الإشاعة ...) فقلت وأنا أغالب ابتسامة تُنبئ عن شعور بالفرَج: - ذاك هو عين الصواب، وهو نفس ما بدأت به حواري معك هذا الصباح! * وبعد، فقد كان الحوار السابق.. نسجاً من أليَاف الخيال، أردتُ من خلاله أن أؤسِّس لمنظومة من الاستنتاجات أوجزُها في التالي: أولاً: أن (مواجهةً) كهذه بين صحفي ومسئول أمر مألوف، وقد كنت (ضحية) مثل هذا الموقف مرة أو مرتين. *** * ثانياً: يبدو أنّ هناك أمراً غائباً في أذهان بعض المعنيين بالحراك الصحفي، وهو أنّ المهارة الصحفية ليست القدرة على تكوين (جمل إنشائية) ولكن المهارة المعنيّة منظومة مرَكَّبة من الثقافة والأخلاق والعمل المهني الجاد المتوّج بالخبرة الناجحة ثم العقلانية في تقدير الأمور، والكياسة في مواجهة المواقف والتعامل معها. ثالثاً: أنّ الصحفي الذي يعتقد أنه يستطيع توظيف (مهارته الإنشائية) فحسب لانتزاع (نبأ) لا يؤيِّده صواب، إنسان غير سوي، وهو بذلك يؤذي نفسه قبل غيره، مسئولاً كان أو عابر سبيل!. *** رابعاً: تأتي بعد ذلك ولايةُ إدارة (التحرير) المسئولة عن المطبوعة ذاتها، وهي التأكد من قدرة مراسليها على ممارسة العمل الصحفي بالمقوِّمات الفكرية والثقافية التي تمليها بَديهيّات المهنة وأخلاقيّاتها، وليس ب(لقافةِ) اللسان أو (بهْلوانيةِ) البدن!!