في معرض تيت البريطاني الذي يقام كل ثلاث سنوات، أعلن العام الماضي أمين المعرض نيكولا بوريو (Bourriaud) رأيه بأن ما بعد الحداثة قد انتهت وماتت، وأننا نشهد ظهور حداثة عالمية أَطلَق عليها الحداثة المتبدلة أو المتغيرة «Altermodernism». وبوريو منظر ثقافي فرنسي وأحد المؤسسين لقصر طوكيو في باريس، يؤكد أن هذا الشكل الجديد من الفن آخذ في الظهور، تغذيها ثورة الاتصالات والعولمة. ويوضح أن الحداثة المتبدلة: «نوع من التقاط الحالم محاولا الإمساك بخصائص الحداثة المحددة للقرن 21». ويعرف بوريو هذه الحداثة بأنها محاولة في الفن ناشئة في السياق العالمي كرد فعل ضد توحيد المعايير والروح التجارية. وكانت هذه الحداثة الوليدة عنواناً لمعرض تيت الذي تضمن سلسلة من أربع مناسبات تسمى المقدمات (Prologues)، وتهدف الى طرح وإثارة النقاش حول المواضيع التي تجري كل ثلاث سنوات. كل مقدمة تشمل محاضرات وعروض وأفلام وبيان (منافست) يسعى إلى تحديد ما اعتبره بوريو الأوجه الأربعة الرئيسية للحداثة المتبدلة: 1- نهاية ما بعد الحداثة. 2- التهجين الثقافي. 3- السفر كوسيلة جديدة لإنتاج الأشكال. 4- توسيع أنساق الفنون. وخلاصة نظرية بوريو هي أنه إذا كانت بدايات القرن العشرين تميزت حداثتها باعتبارها ظاهرة ثقافية غربية على نطاق واسع، وكانت ما بعد الحداثة تتشكل من أفكار التعددية في الثقافة والأصول والهوية، فإن الحداثة المتغيرة يعبر عنها بلغة الثقافة العالمية أو العولمية. فنانو هذه الحداثة يشقون قنوات بأشكال كثيرة مختلفة من الشبكات الاجتماعية والتكنولوجية التي تقدمها بسرعة متزايدة من خطوط الاتصالات والسفر في عالم معولم. وتفسر الجارديان البريطانية تلك الحداثة المتبدلة بأنها فن عالمي لا يمس تماماً الأعماق ولكن يبقى على التحرك الدؤوب من خلال الأماكن والأفكار، التي ينتجها المبدعون المتصلون في جميع أنحاء العالم بدلاً من تجميعها حول أي محور مركزي مثل نيويورك أو لندن. ويمكنك أن تتخذ شبكة الإنترنت حول العالم باعتبارها نموذجا وفكراً يتميز بالاتصال الفائق والمستمر في التحديث وفي التهجين الثقافي. إنها بالتأكيد مرحلة ما بعد الاستعمار، متنقلة، ومؤقتة لحد ما، لكنها ليس شيئاً من تلك الحركات الكبرى ذات الشأن والدلالة، حسب الجارديان. وإذا كانت آراء المنظر بوريو ليس بذات شأن كبير فإن هناك شبه اتفاق بأن أفضل من قدم نظرية منهجية لثقافة المرحلة التي تلي ما بعد الحداثة، هو اللغوي الألماني الأمريكي راؤول إشلمان (Eshelman) في كتابه الصادر عام 2008: « الأدائية، أو نهاية ما بعد الحداثة» (Performatism, or the End of Postmodernism). وقد صاغ هذا المصطلح الجديد الأدائية أو الإجرائية منذ عشر سنوات، محاولاً إظهار أن الأعمال في حقبتنا الجديدة يتم بناؤها بطريقة تؤدي إلى تحقيق الوحدة، والخبرة جمالياً بوساطة من التعالي. هذه الوحدة المفروضة جمالياً تحل محل التعدد المفتوح واللانهائي للمفارقات في تفسير النصوص، بوصفها القوة المهيمنة في الثقافة الجديدة، والتي يدعوها الكاتب الأدائية، التي تعمل على «الاحتواء» المصطنع للمتلقين بطريقة لا يكون لديهم خيار سوى قبول المعطيات الخارجية للعمل وتحديد الصفات الموجودة داخله. والأدائية تفعل هذا عن طريق إبداع أعمال مغلقة للفن، بحيث تجبر المتلقي على الاعتقاد بجمالية خاصة وتحديدها ضمن سياق النص مع البساطة والغموض. ويمكن أن يظهر هذا الإجراء الأساسي للعمل ليس فقط في أساليب السرد مثل السينما والأدب، ولكن أيضا في البصريات مثل الفن التشكيلي والهندسة المعمارية، وكذلك في الفلسفة. ومن الأمثلة التي ذكرها إشلمان لأفلام معروفة وروايات: أمريكان بيوتي، الاحتفال، ميدل سكس، الأبله، فضلا عن أعمال للمهندسين المعماريين والفنانين مثل فوستر وبيانو وجورسكاي. ويؤكد إشلمان أن أي محاولة لتحديد المعاني تبدو مستحيلة مع ما بعد الحداثة إذ تتوسع المعاني على نطاق واسع من التفاسير والمفارقات بطريقة لا نهائية، لينتهي الموضوع من حيث بدأ. والسبيل للخروج مما بعد الحداثة يجب أن يتم من خلال آلية منيعة تماما لأوضاع التشتت والتفكيك والانتشار لما بعد الحداثة. هذه الآلية، التي تتنامى قوتها مع زيادة الأحداث الثقافية في السنوات القليلة الماضية، يمكن فهمها باستخدام مفهوم الأداء (Performance). والأداء في حد ذاته ليس ظاهرة جديدة، ففي نظرية أوستين للخطاب، الأداء يشير إلى عمل اللغة التي تقوم بما وعدت به، مثل عبارة المأذون: «أنا الآن أعلنكما زوج وزوجة». إلا أن مفهوم الأداء الذي أشير إليه -يقول إشلمان- شيء مختلف وجديد. هذا المفهوم الجديد من الأدائية لا يقوم على تقديم ولا تأطير الموضوع، بل على الحفاظ عليه: فالموضوع يُطرح (أو يطرح نفسه) كوحدة واحدة، غير قابل للاختزال تجعل الانطباع ملزم على القارئ أو المراقب. ومع ذلك، فإن هذا التجسد الشامل للموضوع سينجح فقط عندما لا يقدم الموضوع ظواهر متباينة ومغوية على المفارقات في التفسير والتي يمكن استيعابها وتفريقها في السياق المحيط به. ويمكن تلخيص أهم السمات الأساسية لأدائية إشلمان: 1- صياغة الأشياء الموجودة بالفعل في الموضوع من أجل تجاوز أو تجديد جذري لها، والتوقف عن الاستشهادات اللانهايئة. وفي السرد، هي عودة إلى أساس النص، إلى إطار النص الملزم، التي تتميز بطرق مختلفة لتجاوز التنميط. 2- العلاقة بين أشياء وعلامات الموضوع الشامل تصبح قاعدة لكل العلاقات والتفاعلات الاجتماعية؛ بدلا من النظام العائم وعدم الاستقرار في العلاقة بين أجزاء العلامات. هنا يصبح استخدام علامة ما عملا غير طوعي بدلاً من السيميائية أو تخبط الدلالة. 3- التحول من نمط التأجيل الزمني الذي لا نهاية له إلى زمن واحد أو الاندماج المحدد بين الأضداد في الزمن الحالي. ختاما، فقد عرضت باختصار مقتضب أهم ثلاث نظريات تُطرح حالياً معلنة موت ما بعد الحداثة، رغم أن نظرية الحداثة الرقمية لكيربي هي أكثرها شمولة ونضجاً، ولكن لا يزال التنظير في بدايته فثمة شعور واسع النطاق بأن ما بعد الحداثة هي فعلاً في نهاية طريقها. هذا ليس إدانة لما بعد الحداثة بل وصف لمرحلة ظهرت بها تكنولوجيات جديدة غيرت وبصورة جذرية بيئة الإنتاج الثقافي وشروطه، وتغيرت معها كافة علاقات الإنتاج الثقافي بين الكاتب والنص والمتلقي.