سيحل كأس العالم في الأسبوع القادم لتشخص الأبصار لمتابعة كرة القدم التي تتقاذفها الأرجل والرؤوس، بالركل تارة، والنطح تارة أخرى، وسيتجه عدد غير قليل من الناس إلى مشاهدة جمع من ممتهنيها والبارزين في مضمارها، وسيحل الفرح تارة والغضب تارة أخرى تبعاً لفوز فريق أو إخفاقه، وسيكثر النقاش والجدل، والهرج والمرح، والأخذ والعطاء، وسترتفع الألسن وتتداخل الأصوات وتعلو، وتختلف الرؤى وتتوافق، وسيمر بإذن الله شهر بهيج تمتلئ فيه القلوب بالمتعة. التوقعات منحصرة في منتخبات بعينها، غير أن ذلك النجاح قد يتجاوزها إلى غيرها، كما حدث في كأس العالم السابق، والنجوم الذين يعول عليهم في إضفاء المتعة بمهاراتهم ربما يحققون الآمال أو يخيبونها، وسيخطئ حكام فتظلم منتخبات وقد تحد القرعة من استمرار المنافسة والمتعة بجمع الأقوياء في فترة متقدمة. وهذا الحدث الذي يقام لأول مرة في افريقيا له دلالته الأكيدة على تطور هذه القارة العزيزة كروياً، واطمئنان المسؤولين على تنظيم كأس العالم أمنياً، ولعلنا نرى في القريب العاجل تطوراً تقنياً، وعلمياً واجتماعياً واقتصادياً يساير ذلك التقدم في ميدان الكرة، حتى يمكن لهذه القارة الكريمة القدرة على ملء بطون أبنائها، بعد أن استطاعت ملء عقولهم بمحبة هذه اللعبة الممتعة، فتدريب الأقدام على ركل الكرة، أيسر بكثير من تدريب العقول على الابتكار، والأيدي على المهارة، والقلوب على الصبر والمثابرة، والأجسام على التعب والعناء لجلب لقمة العيش. هذا العرس الكروي العالمي سيريح كثيراً من الناس من هموم الأسهم، وتلاعبها بالجيوب، فينصرف الناس عن نكدها إلى متعة الكرة ونهجها، فلعل من هذا الموسم الكريم يشغل أولئك المتعلقين بالأسهم عن جلسات الشاي في صوالين متابعة الأسهم، أو من حظوا بنهاية طرفيه يقذفون من خلالها بحر ما لهم ليطير بعضه سدى عندما تنزلق تلك الأسهم إلى مستويات غير مقبولة. هذا العرس الكروي العالمي، سينسي البعض هموم السياسة، ومقولات الساسة، وتحسين الألفاظ، وتنميق الحديث، والوعد بالتطور في سير حثيث، وسينصرف البعض عن آلام الظلم التي توقعها دول بدول أخرى، وربما حكام بمحكومين، أو محكومين بحكام من خلال المبالغة في النقد دون النظر إلى الذات، وسيهجر البعض الاستماع إلى التحاليل الاقتصادية والسياسية ليجعلوا همهم التحاليل الرياضية، والتحاليل كلها لا تضيف جديداً، وإنما يبدئ صاحبها ويعيد، فيكون حديثه متعة الجلاس، لقضاء وقت بعد أن تجنبوا خير أنيس وهو الكتاب. سيترك البعض قنوات الوعظ والنصح والإفتاء، وقنوات الجدل والنغم والإطراء، وقنوات السياسة والاقتصاد، وقنوات الاجتماع والإرشاد، متجهين إلى قنوات الرياضة فيكثر مشاهدوها وتزيد المداخيل، وتمتلئ الجيوب، فتخف الكروب. ومن خلال القنوات الرياضية سيتعرف المشاهدون على معلقين جدد، وأنماط من المؤثرين مبتكرة، وأوراق على الطاولات مبعثرة، ينظر إليها المعلق تارة ويرفع رأسه إلى المشاهد تارة أخرى، ليومئ له بدقة القول، ومرجعية رأيه، وحسن تدبيره، وجمال تحريره، وسيكثر شرب القهوة والشاي، والقعود والقيام، والوثوب والهدوء، والتأمل والتفكر، وفي نهاية الأمر ليس هناك إلا كرة من المحتمل أن تفوز بها دولة من دول اعتادت على ريادة المنصات، وحصد الكؤوس، ونبل الفلوس، أما بقية دول العالم فأكثرها أصبح متفرجاً كعادته لم يستطع تجاوز منتخبات قارته فيختار فريقا يشجعه، وآخر يدعمه، وبعض الدول التي اعتادت على المشاركة ليس لها أمل في فوز وإنما هي مشاركة في مهرجان عالمي تأنس فيه بالمشاركة دون طمع في الفوز أو المنافسة، فيكون وجودها كبعض الخيل التي تشارك في السباق ليس لغرض الفوز وإنما لتحفيز حصان آخر للظفر والنصر، ونيل المراد، فيكون في واد والناس في واد. كرة القدم متعة، ونتمنى النجاح لهذا الكأس العالمي لكرة القدم، وأن تكون رسالته رسالة خير وسلام ليتنافس الناس على سيادة الحق والعدل والإنصاف من خلال التمايز في العطاء، كما هي حال كرة القدم، ويهجرون القيل والقال حتى لا يكونوا مثل الشاعر السميسر الذي ألف كتاب اسمه (شفاء الأمراض في أخذ الأعراض).