تعرضت لهجوم من إسرائيل في المياه الدولية وهي تحمل مساعدات إنسانية، ومات عدد من الناشطين الذين كانوا على متنها، وماذا بعد؟ هدد العالم بالشجب والاستنكار واتخاذ بعض الإجراءات الدبلوماسية الأنية القابلة للمسح والإزالة، واجتمع مجلس الأمن وقرر في لغة مخففة أسفه لوقوع ضحايا، والانتظار لحين التحقيق الشفاف المحايد كما يدعي المجلس، وإدانته أعمالاً أدت إلى وفاة مدنيين. كلمات من مجلس الأمن لا تعني شيئاً عملياً وإنما هي كلمات دبلوماسية تهدئ من روع الشعوب، وتخرج بشيء من مجلس الأمن، وهو شيء يعني لا شيء، وهكذا فإن الشيء الذي هو لا شيء هو القرار القابل للخروج من مجلس الأمن في ظل نظام الأممالمتحدة الذي يعطي لخمس دول حق النقض (الفيتو). سيدفن الضحايا كغيرهم من الضحايا الذين سبقوهم، وسيستأنف المجتمع الدولي نسيان القضية كالمعتاد، وستسطر الشعوب مظاهرات هنا وهناك، وستنقل القنوات آراء الناجين وأسر الضحايا والمحللين، وسيتحدث الناس عن ذلك أياماً معدودات وفي نهاية الأمر لا شيء يمكن أن يحدث على أرض الواقع، وستعود الأمور كما كانت، ولإسرائيل تجارب كثيرة في هذا المضمار وسوابق ليس لها حصر أو عد، ويكفي أن هناك أرضاً محتلة، وشعباً مشرداً وما زال الوضع كما هو دون جديد يذكر سوى وفود تغدو خماصاً وتعود خماصاً كما غدت. إسرائيل ربما تستمر في فعلها، وقد تزيد من بطرها دونما مانع؛ لأن المتاح للفعل قليل في ظل قدرة إسرائيلية مالية وإعلامية وظفت للتأثير على أكثر دول العالم تأثيراً، وجذبها إلى ناصيتها، وفي ظل نظام أممي يسمح لدول بذاتها اتخاذ ما تراه متوافقاً مع مقاصدها، لتكون بذلك شرعية دولية تختلف عن العدالة الإنسانية والأممية التي كانت تتوخاها الشعوب من انضمامها لهذه المنظومة الأممية التي لا خيار غيرها مع ما فيها من عيوب. الخيار الوحيد لدى الدول الأقل حظاً أن تعتمد على صديق من الدول التي لها النقض ويكون أهلاً للصداقة، أو أن تكون تلك الدولة صاحبة مهارة في توظيف إمكانياتها الإعلامية والمالية، وقدرات شعبها العلمية والدبلوماسية على التأثير في قرارات دولة من تلك الدول الاستثنائية في ظل النظام الأممي العالمي، الذي منح تلك الدول ميزات كثيرة تجعلها مع من تحب فوق النظر بعين الحق، وإنما عين الرغبة والهوى والميل إلى ما يخدم مصالحها، أو مصالح بعض أصحابها حتى لو كان ذلك على حسابها، وذلك بمقدار تأثير ذلك الصاحب. وبعد ذلك كله، ماذا يمكن لتلك الدول التي ليس لها حق النقض، فهل تبقى أسيرة رغبات الدول القادرة على فرض القرار الذي تراه، أو أن بيدها ما يمكن أن تفعله؟ لكل دولة أو مجموعة دول القدرة إذا رغبت ثم فعلت، غير أن الأغلب الأعم أن الأماني موجودة والرغبات متاحة، لكن الفعل يحتاج إلى جهد وتضحية وهذا ما لا تريده بعض الشعوب حتى وإن كانت تستطيعه، فطريق الإنجاز والعمل طويل، بينما الأماني سهلة ميسرة، وكأنهم قد سمعوا صدر بيت من الشعر يقول: (تلك الأماني يجعلنَّ الفتى ملكاً). الأماني لا يمكنها أن تفعل شيئاً لكن النهضة العلمية والصناعية والتنظيم الإداري عوامل قادرة على نهوض الأمم ومجاراتها لغيرها، واللحاق بها، ولنا في دول كثيرة حقائق ملموسة. الصين مثلاً حتى عهد قريب كانت لا تجيد حماية أو طعام نفسها، والآن في طريقها إلى أن تكون أكبر دول العالم اقتصادياً وربما عسكرياً ومن بعد ذلك تأثيراً وفي غضون سنوات محدودة. أذكر أنني عندما ذهبت إلى الصين قبل عشر سنوات وبقيت بها ثلاث سنوات ونصف، كانت لا تزال في طور النمو ما بعد الابتدائي، وزرت إحدى القرى الصينية النائية بصحبة أحد الإخوة الكرام الذي كان شعره أكرداً وبشرته سمراء، فتهافت عدد من أبناء تلك القرية ينظرون بعين الاستغراب لذلك الرجل (الغريب) ويلمسون من باب الفضول شعره الأكرد والعجب يملأ قلوبهم، فهم لم يروا حتى ذلك الحين تلفازاً ومن حظى به فهو لا ينقل إلا ما تقدمه له الدولة آنذاك، وفي زيارة أخرى كانت النظرة تنصب على أنوفنا وكأننا قد قدمنا من كوكب آخر. هذا الشعب الذي كان قبل سنين قليلة بعيداً عن العالم أصبح الآن حديث العالم، يتحدث عنه الداني والقاصي بكل إعجاب، ولم لا يكون الشعب العربي الذي ساهم في الحضارة الإنسانية ورسم معالم أخلاقية جليلة قادراً على فعل ما فعل غيره، لا شيء يمكنه أن يمنعه من ذلك سوى ذاته، مع تغيير كبير في النمط الإداري والأسلوب الإنتاجي، المتاح له إن أراد ذلك. هذه الحادثة المؤلمة لسفينة الحرية ليست سوى محطة من محطات المواعظ المتتالية التي تُهْدى إلينا في كل حين، والتي نعيشها فتؤلمنا، ثم لا نلبث أن ننساها، وهكذا نستمر في البقاء في نفس المكان دون حراك.