لا الدمع يُشفي، ولا الحرقة عليك تجدي.. فقد مُتَّ يا «إباء». رحلت عنا.. وحلَّقت كالطيور في السماء. وعليَّ أن أتوقف عن الاسترسال في هذا البكاء بكلمات.. هي في الأصل «دموع» تحجرت أبجديتها، فلست أحدث نفسي لأقول لها ما أشاء،... ... ولكنني أكتب لقراء.. قد لا يعرف معظمهم، ويعرف بعضهم.. من هو هذا ال «إباء». من هو هذا «الفتى»..؟ من هو هذا الذي خطفه الموت.. وهو في ميعة الصبا، وتركنا نضرب أخماساً في أسداس، ونحن نستعيد أسئلتنا الحائرة.. الدامية والدائمة عن «الموت»: ما هو.. وكيف هو.. ولمن يأتي..؟ أياتي ل «الكهول» و»الختيارات»..؟ أم لمن هم في صدر شبابهم وصفو أيامهم.. فيضيع معنى «البداية» و»النهاية»، ويتخبط الناس بين مصدق ومكذب..؟ ك «حالي» عندما نعت إليَّ (زوجتي) نبأ «موت» إباء.. في سريره (!!) وهي حائرة لا تدري أتصدق النبأ أم تكذبه.. بل وتسألني التأكد من صحته، إلا أنها كانت تلحُّ عليَّ منذ لحظة قدومها وبيدها كوب من الماء.. بأن أهدأ وألا أنفعل، فظننت أنها تحمل إليَّ أنباءً غليظة بعض الشيء.. ك «مرض» أو «موت» أحد أقربائنا أو قريباتنا المسنين والمسنات ممن تعلم كم أحمل لهم ولهن من حب وتمنيات.. ولكنني لم أكن أتصور أنها بهذا المستوى (الصاعق)، وفي.. مَنْ؟ في هذا العصفور.. الضاحك، والمتوثب الذي لا أكاد ألاحقه بنظراتي وهو يتنقل رشيقاً في صالون «الإثنينية» كل أسبوع من صديق لآخر.. من أصدقاء والده: يُحيي هذا، ويتلاطف مع ذاك، ويملأ ب «السرور» والبهجة قلوبهم جميعاً.. وكأنه «صديق» لا «ابن» لهم. فقد كان «إباء».. هو الوحيد من بين أبناء صديقي العزيز والمكلوم (عبدالمقصود خوجه) القادر على أن يجعل من أصدقاء والده (السبعينيين.. وما فوق) أصدقاء له، حتى ليبدو وكأن أول درس تلقاه وحفظه عن والده.. هو درس بناء العلاقات وإقامتها مع الآخرين.. كل الآخرين، من أبناء العشرينات من أصدقائه وزملائه.. إلى أبناء السبعينات وما فوقها من زملاء وأصدقاء والده..!! لقد كنت في أزمنة الدعة أمازح أخي عبدالمقصود.. قائلاً: بأن له.. «برطمانين» كبيرين من العسل: أحدهما عن يمينه.. والآخر عن شماله، وأنه يغرف منهما في توصيف أصدقائه وزملائه تحبباً.. فكلهم «جهابذة»، وكلهم أدباء كبار ومفكرون عظام، فصنع لنفسه قاعدة من المحبين لا توازيها قاعدة.. هي ثمرة جهوده وعواطفه ومحبته التي وسعت كل أبناء وطنه دون شك، وإن تلاقت مع ذلك القول المأثور والجميل (من لانت كلمته.. وجبت محبته)، فهل امتدت يد «إباء».. دون أن يدري والده، ودون أن ندري جميعاً إلى أي من «البرطمانين» فغرف منهما.. حتى تحول كل أشياخ «الإثنينية» وكهولها آباءً له.. وأنا منهم، وربما في مقدمتهم..؟ ولكن.. أواه.. يا «إباء». فلا شيء يجدي!! بعد أن تماسكت.. مستلطفاً.. خائفاً.. حائراً.. دامعاً، كنت أجري أول اتصال مع (ثالثنا) أخي الأستاذ محمد سعيد طيب، فلعل لديه النبأ.. ولعل لديه تكذيبه وهو ما كنت متعلقاً به حتى تلك اللحظة، ولكنه فاجأني بوجوده في «القاهرة».. إلا أنه أعلمني بأن له صديقاً يستطيع أن يستكشف لنا الأمر بهدوء ودون أدنى.. شوشرة، وأنه سيعاود الاتصال بي في دقائق. بعد عشرين دقيقة تقريباً.. جاءني صوت (أبي الشيماء) متلجلجاً مرتبكاً بأن «نعم». صدق النبأ.. وأن إباء قد مات في سريره دون مقدمات مرضية عند الرابعة أو الخامسة من عصر يوم الجمعة - ما قبل الماضية -!! فغامت الدنيا في عيني.. وشيء يتصاعد أو يهبط في داخلي، وزوجتي تحاول تهدئتي وهي تمسح دموعها، فلم يكن «إباء» بالنسبة لها، إلا كواحد من ابنيها (عمرو وهشام) وقد جمعتهما و»إباء»سنوات الدراسة الابتدائية فالإعدادية فبعض»الثانوية» وإلى أن تفرقت بهم سنوات الجامعة.. إلى جانب تلك العلاقة العائلية الحميمية التي ربطت بين أسرتينا في تلاحم أخوي وجداني كان «مصباحها» علاقتي ب «عبدالمقصود خوجه»، وكان «سراجها» هذه الزهور اليانعات من الأبناء والبنات.. وعلى مدار أيام العام.. فضلاً عن المواسم والإجازات. لتقول لي بعد ذلك: لابد وأن تذهب الآن.. إلى منزل (أبي محمد سعيد.. فهذه كنيته)..؟ قلت: وماذا أفعل..؟ - تواسيه.. وتقف إلى جانبه في هذه المحنة. في هذا الزلزال المدمر. - لا أستطيع أن أقول شيئاً.. إن حملتيني على الذهاب. - اذهب صامتاً، والسائق.. سيقوم بإيصالك (كانت الساعة آنذاك تقترب من الحادية عشرة مساءً). عندما وصلت.. كان البيت صامتاً.. وكان العاملون في مكتبه يقفون على بابه وكأنهم تماثيل من الشموع أو «الدموع». عانقتهم صامتاً.. ودلفت إلى داخل المنزل صامتاً لأجد بعضاً من الإخوة والأصدقاء.. فلم يقطع ذلك الصمت الثقيل الذي ران على كل شيء، إلا وجود ابن المهندس زكي فارسي (عبدالله)، الذي كنت أعرف أنه أحد أصدقاء «إباء» المقربين والحميمين.. لأسأله: يا عبدالله.. ما الذي حدث؟ فأعاد عليَّ بحزن وانكسار ما كنت قد سمعته بداية.. وتأكد لي ثانية، لأقول في صمتي.. الذي عدت إليه: الأمر لله من قبل ومن بعد. ولا حول ولا قوة إلا بالله، ليلمع في ذاكرتي قول لبيد: (ألا كل شيء ماعدا الله باطل/ وكل نعيم.. لا محالة زائل)، وقد أخذت تجثم على قلبي.. مخاوفي من لحظة التقائي بأخي عبدالمقصود، الذي أعرف حبه ل «إباء»، وتعلقه به، وانتشاءه بوجوده.. وهو على هذه الحيوية والطموح والألق.. فكيف سألقاه..؟ وماذا أقول له..؟ ولست أدري إن كان قد طال انتظارنا أو لم يطل في تلك اللحظات.. لأرفع رأسي بعدها على صوت خطواته وهي قادمة إلينا، ومع التفاف الحاضرين حوله وتقبيلهم له ومواساتهم له ودعائهم بالمغفرة ل «إباء» وبالصبر لوالده ووالدته.. هالني - وقد التقى وجهانا كما التقت عينانا - ذلك القدر من «التماسك» الذي بدا عليه أخي عبدالمقصود. إنه تماسك العارفين بأن «لكل أجلٍ كتاب»، وأنه «إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون»، وتماسك المحتسبين عند الله.. وربما كان إنسانياً هو تماسك الاضطرار والقدوة. فإن بكى.. سيبكي الجميع. وإن انهار.. فسينهار الجميع، غبطته، وسألت الله له المزيد.. على أنني كنت موقناً بأن وراء تماسكه.. نيران تندلع بين الصدر والقلب والأحشاء، لا أدري كيف ولا متى ستنطفئ، ليجلس أخي عبدالمقصود.. وليفاجئني - والحاضرين - بقوله، إنه قبيل أسابيع وقد شعر بشيء من «التوعك»، أخذ ورقة وقلماً.. وجلس ليكتب عن «الموت» (الذي يأتي أنى يشاء، وكيف يشاء، ومتى يشاء.. ثم يغادر المكان ليعود ثانية لأخذ من يريد)!! لقد أدهشني ما كان يقوله عن الموت.. لأسائل نفسي: أكان ذلك تعبيراً عن خوفه الشخصي من الموت بعد وعكته..؟ أم أنها تأملات السبعين وأشجانها..؟ أم أنه كان إيحاء.. بما سيأتي بعد، عندما يعود الموت ثانية ليختطف مهجة حياته..! وأوَّاه يا «إباء».. فقد كان ما كان!! لقد كان «إباء» ابن «الإثنينية» بحق وطفلها المدلل.. ف «عمره» يكاد يكون من عمرها، وقد تربى على مشاهدها: صبياً، ويافعاً، وشاباً، ورأى روادها وشيوخها وكبار مفكريها وعلمائها وشعرائها وفنانيها من الأنصاري والجاسر والزمخشري والعطار والسباعي.. إلى بلخير والزيدان والضياء و»الجمالين».. إلى العبيد وبن خميس و»المدنيين».. وهو يقطع صالونها وساحتيها في الخريف وفي الشتاء وإلى أوائل الصيف من كل عام: متعثراً.. واثباً.. راكضاً بتدرج سني عمره، وهو لا يدري - بداية - من هؤلاء وماذا يفعلون، ولماذا يترددون على منزلهم كل أسبوع؟ ولماذا يحتفي والده بهم كل هذا الاحتفاء..؟ ولماذا تتسع ابتسامته عندما يقبل عليه أحد منهم، وهو يعانق هذا ويقبِّل جبهة ذاك ويكاد يلثم أكف الأشياخ منهم..؟ ثم علم وتعلم، وعرف أن هؤلاء الكبار.. من متئدي الخطى وأصحاب «العكاكيز»، هم مربو الأجيال ومعلومها.. هم علماؤها ومفكروها وشعراؤها وأدباؤها، فأعطى آذانه وبصره ووجدانه لهم.. ليرى ويسمع ويتعلم، وقد أحبهم أجداداً وآباءً وأعماماً له.. وأحبوه ابناً من أبنائهم.. وفتى يبهج شيخوختهم.. وأملاً يذكرهم بغد لا يموت، ولو قدر ل «إباء» أن يمتد به العمر.. لكان سيكتب ذات يوم عن صورة هؤلاء، وكيف رآها.. وكيف أدهشته.. وأسعدته! ولكن.. أوَّاه.. يا «إباء»، فما عاد يجدي كثير الكلام أو قليله!! عندما انفض ليل العزاء.. وغادر المعزون، وبدأت تتخافت الأضواء من حولنا.. كنت أتأمل أخي عبدالمقصود فيزداد حبي له وإشفاقي عليه، فقد شاءت له الأقدار أن يعيش حزنين في حياته.. ربما لم يعشهما إلا قليلون من أمثاله، فقد وسَّد أباه القبر بيديه «طفلاً».. واستقبل جحيم يتمه، وها هو الآن ثانية يوسِّد ابنه - فلذة كبده - القبر.. «شيخاً»، ليستقبل وحشة الأيام وفراغها.. من بعده..!! لك الله يا أخي، ولوالدة «إباء» الصبر الجميل على فقد لا يعوضه إلا الله وواسع رحمته وعظيم عطائه وجبره. وأوَّاه.. يا «إباء»، فقد تركتنا على حين غرة.. وطويت بغيابك صفحات من أحلى أيام العمر.