مع تداخل العلاقات الاجتماعية وتشابكها بات من المستحيل التدقيق في كل التصرفات الجارحة والمؤلمة التي تصدر من الناس عموماً، وجحود الأصدقاء والمقربين على وجه الخصوص. ولعل أفضل وسيلة لاستمرار العلاقات هو التغافل عن بعض تصرفاتهم. حين يصبح من العسير عتابهم؛ لأن كثرة العتاب تنفِّر وتشتت الإخوان، كما أنها مجلبة للفرقة والهجر. والتغافل توجيه تربوي، ومنهج إصلاحي، وخلق نبوي مارسه صلى الله عليه وسلم مع المنافقين وكفار قريش. وافتخر به عمر بن الخطاب بقوله: (لست بالخب ولا الخب يخدعني). يقصد أنه لو تغافل فإنه ليس غبياً ولا يخدعه الغبي. ويقول الحسن البصري: (ما زال التغافل من فعل الكرام). والتغاضي هو أقرب معنى للتغافل، والعفو المبطن أو غير الصريح هو أجمل مرادف له، برغم أن الكثير من الناس يتجنب أن يوصف بالمتغافل لقرب هذا المعنى من الغفلة أو السذاجة أو الغباء. وقد يُنعت به السطحي في التفكير، المتبلد الذهن أو ضعيف العقل، بينما هو في الواقع جزء من الذكاء المهذب، ولا يقدر عليه إلا الحليم، العاقل اللبيب، الذي قال عنه الشافعي: (هو الفطن المتغافل). وهو الحد الفاصل بين التغافل المحمود (التغاضي) والتغافل المذموم (الاستغفال)! والتغاضي سمة من سمات النبلاء، وخُلق من أخلاقهم يورث صاحبه العزة والسيادة. ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي وهذا الإمام أحمد رحمه الله يشيد بهذا الخلق الرفيع بقوله: (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل) فما الذي بقي يا إمام من حسن الخلق، بعد أن أخذ التغافل تسعة أعشاره؟ والمقصود هنا هو تكلف الغفلة مع الوعي والإدراك لما يُتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور. فبدلاً من تضييع الأوقات الجميلة مع الأصدقاء بالتأنيب والعتاب وتقليب المواجع, يحسن التغاضي وإغماض عيون القلب عنها حتى لا يبقى القلب محملاً بالجروح وبعدها تنعدم سبل التواصل بينه وبين أحبابه بسبب كثرة الانتقاد والمحاسبة، بشرط أن يدرك الطرف الثاني أن ذلك ليس من باب السذاجة ولا ضعف الشخصية، بل إنه من بوابة العفو والتسامح، وهو الحكمة بعينها. ومن منطلق التعامل بواقعية ومرونة ومعرفة بطبيعة الناس التي جبلوا عليها وتعوّد نفوسهم على الخطأ، والإيمان بأن كل بني آدم خطاء؛ يقتضي أن نتغافل عن تلك الأخطاء ما لم تجر مفاسد. وفي حياتنا اليومية وما يكتنفها من ضغوط يبرز التغافل سيداً للموقف، حيث ينبغي عدم التدقيق فيما حولنا من مضايقات؛ لأن ذلك يزيد الشعور بالألم، في حين أن التغافل يريح الأعصاب، ويمنح للفكر الطاقة المتجددة، ويبعد المرء عن المنغصات والمكدرات. فالمعلم في فصله لو تتبع سلوك طلابه ومشاغبتهم وحركاتهم الاستفزازية لعجز عن إكمال شرح درسه، ولو استخدم معهم أسلوب التغافل لكسب تقديرهم وهيبتهم له. والزوج في بيته لو استقصى هفوات زوجته، أو تتبع هنات أبنائه وراقبهم لناله التعب ولتكدرت حياته، ولو صرف فكره عنها لحقق الراحة والاستقرار ما لم يكن الخطأ جسيماً أو الذنب كبيراً يحتاج لمعالجة. وكذلك الزوجة لو دققت في مراقبة خصلة في زوجها لا تعجبها أو سلوك مقزز يصدر منه ولا يستطيع تركه؛ لعاشت حياة بائسة تعيسة وفقدت السعادة، فلا تتوقع أن تجتث منه سلوكاً ولا تبدِّل عادة ما لم يكن مقتنعاً بالإقلاع عنها. فهل التغافل علم غزير نتعلمه فلا نكتفي؟ أم هو فن رفيع لا يجيده إلا محترفو السعادة، ومتذوقو الراحة؟ أم هو خلق راقٍ عظيم لا يدركه إلا من وهبه الله الصبر والحلم والسمو؟! www.rogaia.net [email protected]