صوت أزيز مألوف يكسر حدة الانتظار الصباحي. الجمهرة الواقفة تحت المظلة وأمامها ووراءها تأتي بحركات استطلاعية باتت معهودة. منهم من ينظر في ساعته ويلعن اليوم «الأغبر» الذي جعله يقف هذه الوقفة «السوداء»، ومنهم من بدأ يلملم الأكياس البلاستيكية التي يحملها استعداداً لعملية الهجوم المدروسة. آخرون يحسبون بطريقة لوجستية عدد الخطوات التي يمكن أن يركضوها للحاق به قبل أن يتوقف تماماً، أملاً في العثور على مقعد. أما الغالبية العظمى فتظهر علامات الاستعداد القصوى على ملامحها. وما هي إلاّ لحظات حتى يخترق المارد الأخضر المنطقة بسرعة يحسده عليها سائقو سيارات الفورمولا واحد. يتوقف بعد أمتار عدّة من المحطة الرسمية مخلّفاً سحابة عاتية من الأتربة المختلطة بدخان العادم المركز ووابل من الشتائم والسباب الموجّه من الجمهرة الراكضة خلفه. المشهد الذي يحدث عند باب الركوب الخلفي، يؤكد أن زمن المعجزات لم ينتهِ. هذا الباب المخصص لصعود شخص واحد يتسع فجأة إلى ما لا يقل عن خمسة أجساد مكتنزة للتناحر على الصعود في مرة واحدة. وصحيح أنه اتساع تنتج منه اتهامات بالتحرش، وأخرى بقلّة الذوق وغيرها بالاكتفاء بالتهديد والوعيد، إلا أن العملية تتم بنجاح. وكما يتوقف الباص الأخضر بحركة «هوليوودية» لا تخلو من عنف، ينطلق بأسلوب درامي يكاد يتحول إلى تراجيديا حين يضغط السائق بكل قوته على الفرامل ليتجنب قطة صغيرة قررت عبور الطريق، فيجد الركاب أنفسهم ملتحمين في مقدمة الباص التحاماً يجعل اتهامات التحرش تسقط أمام هول الاندفاع. وما هي إلا دقائق، حتى يمتلئ الباص العام عن آخره، بالكتل البشرية المتوجهة إلى أعمالها. في يوم، كانت لسعة البرد الصباحية شديدة، فتحوّل الباص إلى «سونا» متحركة بدأت معها أعصاب الركاب والسائق والمحصّل في الانفلات تحت تأثير الحرارة وقلة الأوكسيجين. ويتبرع أحدهم بالمطالبة بفتح النوافذ مؤكداً أنه «مساعد دكتور وعارف ضرورة وجود الأوكسيجين». لقب «مساعد دكتور» أثار ضحك حفنة من الشباب المتوجّهين إلى كلياتهم، ثم سأله أحدهم ساخراً عن طبيعة عمل «مساعد الدكتور»، فأجاب بأنه المسؤول عن عيادة الدكتور فلاني، وأن «الدكترة» ليست بالدراسة وإنما بالخبرة. التلاسن بينه وبين الشباب لم توقفه إلا صرخات الاستغاثة التي أطلقتها سيدة شابة محشورة بين رجلين في منتصف الباص. السيدة أكّدت في عويلها أنها تختنق وأنها أوشكت على الموت، وهو ما فسّره رجلان على مقربة منها بأنه ادعاء نسائي الغرض منه استعطاف أحد الجالسين للتنازل عن مقعده لها. لكن فريقاً آخر مد لها يد المساعدة، إذ أفسحت لها سيدتان تجلسان على أريكة مكاناً بينهما لتجلس. وما هي إلا لحظات حتى اتضح أن المستغيثة حامل في الأشهر الأولى، وانهالت النصائح على السيدة الشابة بين أهمية التهام بصلتين صباحاً لمنع حدوث الدوخة، والانصياع وراء كل رغباتها الغذائية لأن «الوحم» الذي لا يلبَّى ضار للأم والجنين. وتطرق الحديث النسوي إلى جوانب بالغة الخصوصية خفتت معها الأصوات أملاً في سماع الهمس الدائر بينهن. إلا أن الانتباه سرعان ما تشتت حين انطلق أحدهم مطالباً بتوجه الباص بركابه إلى أقرب قسم شرطة لتحرير محضر يثبت فيه أن السائق غيّر مساره. مطالبات الراكب الغاضب جاءت مذيّلة بمجموعة منتقاة من النعوت والصفات التي يحاسب عليها القانون. وأمام إصرار السائق على تجاهل الراكب، وتضامن المحصل معه، انقسم الركاب إلى جبهتين، الأولى مؤيدة للتغيير الذي انتهجه السائق هرباً من الإشارات المرورية ونقاط التكدس، والثانية معارضة للتغيير الذي تم تصنيفه تحت بند الديكتاتورية وسوء استخدام السلطة. لكن سلطة الغالبية فوق الجميع، وهو ما أذعن له الراكب الغاضب الذي ترجل من الباص بعدما نجحت الجبهة الأولى في إجهاض خطته. لكن الراكب أبى أن يترك أرض المعركة إلا بعد أن يصب لعناته، ليس فقط على السائق والمحصل وجبهة الرفض، لكن على الحكومة التي تركت أولئك يتحكمون في «الغلابة»، والتي زرعت الخوف والإذعان في القلوب، وقتلت روح الاعتراض والقدرة على المطالبة بالحقوق في النفوس. لعنات الراكب على الحكومة أججت حزمة من الأحاديث السياسية داخل «المارد الأخضر». حتى السائق الذي كان ملتزماً الصمت طوال الفترة، باستثناء السباب الذي يتبادله بين الحين والآخر مع بقية السائقين بسبب أولوية المرور، أخذ يدلو بآرائه السياسية مؤكداً أن سبب تردي الأحوال هم الأميركيون الذين ينشرون الفيديو كليب وألعاب الكومبيوتر والبنطلونات الجينز الضيقة بين الفتيات، وأن الحل الوحيد هو العودة إلى أيام جمال عبدالناصر. هذا التوجه «الناصري» قوبل بشجب شديد من رجل خمسيني ملتح، إذ أكد أن سبب الموبقات هو البعد عن الدين والاتجاه العلماني والانفلات الأخلاقي الفج، مختلساً النظر إلى شاب وفتاة وقفا ملتصقين في آخر الباص وهما يتهامسان في مشهد عاطفي لا يتناسب وهمجية المكان وازدحامه ورائحته. الأنظار المتلصصة إلى الثنائي المتحاب لم يشتتها سوى صعود أحد الباعة المتجولين محملاً بحفنة من الحقائب المملوءة بالبضائع. وبصوت جهوري أعلن أن لديه باقة من القمصان وربطات العنق المستوردة، وجوارب للمحجبات، وملابس الأطفال الداخلية، هذا غير أدوات التجميل وأمشاط الشعر وإبر الحياكة. وأعلن الرجل أنه يتحدى أن يجد الركاب من يبيع هذه البضائع الصينية المتميزة بأسعار أقل منه. فالقميص بستة جنيهات، وربطة العنق بخمسة، والجورب بجنيه، وإبر الحياكة بخمسين قرشاً. فتحول الباص بثوانٍ إلى سوق تجارية رائجة، البضائع مفروشة على أرجل الركاب الجالسين، والمناقشات على أشدها حول صدقية الأسعار وجودة المنتجات. وفي خضم عملية البيع والشراء، صعد مخبر بملابس مدنية مطالباً البائع بالترجل معه لأنه خالف القوانين. تصاعدت صيحات الركاب بين مستعطف للمخبر «حرام عليكم، اتركوه يأكل عيش»، وشاجب للدولة التي «لا ترحم ولا تترك رحمة ربنا تنزل» ومستغيث بضرورة الحصول على بقية العشرة جنيهات قبل القبض على البائع، فرقّ قلب المخبر لحال البائع، كما أعجبته القمصان التي يبيعها ب «رخص التراب» لا سيما أنه عريس على وشك الزواج. وتحولت الجموع الشاجبة والمستعطفة إلى قوافل مهنئين على الزيجة السعيدة، وتبرع بعضهم بأن يدلو بدلوه في اختيار القميص الذي سيشتريه بخمسة جنيهات، بدلاً من ستة. صداع يومي، ومهاترات على مدار الساعة. نصائح نسائية ونظريات سياسية وأخرى اقتصادية يعيشها ويعايشها ملايين المصريين يومياً في هذا الباص أو ذاك. يتحدون الازدحام والفقر وضغوط الحياة داخل الباص، تارة بالانفعال تحت وطأة حالة المواصلات العامة السيئة، وتارات أخرى كثيرة بالتفاعل الإنساني الذي يبقيهم على قيد الحياة.