قبل يومين انتُشلت من تحت ركام مقر الأممالمتحدة في هايتي جثة صبية عُرفت بوجهها الجميل البشوش وقوامها النشيط. صبية لم تبلغ سن الإنجازات الكبرى والمناصب العليا، إنما بلغت سن الطموح والثقة بالنفس والمستقبل والمغامرة والعمل في «الحقل» نحو رحلة طويلة بصفتها موظفة في منظمة الأممالمتحدة، صبية بلغت سن الحادية والثلاثين. كبار موظفي الأممالمتحدة وقدامى العاملين في المبنى الدولي حزنوا كثيراً على أمثال الهادي عنابي، ابن تونس الذي أحسن تمثيلها وتمثيل العرب في مناصب يُفتخر بها في الأممالمتحدة. الهادي خدم في هايتي رئيساً للبعثة الدولية هناك بعدما أمضى سنوات في دائرة حفظ السلام وتولى لفترات طويلة أعلى المناصب كعربي في المنظمة الدولية. ولأنه قام بعمله أفضل قيام وعُرف عنه انه مهني مثالي، امتزج الحزن بحس الخسارة الكبرى، وذُرفت الدموع على الهادي كما على رفاقه الكثيرين الذين هبط عليهم مبنى الأممالمتحدة في بور او برنس يوم أتى الزلزال بالكارثة على اهل هايتي ومن فيها. الطابق الثالث من مبنى الأممالمتحدة في نيويورك اهتز عاطفة يوم سمع بتلك الصبية ذات الوجه البشوش والقوام الممشوق التي كانت تعمل في مكتب توزيع وثائق الأممالمتحدة الخاص بالصحافيين. يوم غادرت الكساندرا دوغواي (من كندا) الأممالمتحدة قبل شهور قليلة احتفت بذهابها الى هايتي في حفل في نادي مراسلي الأممالمتحدة، حضره ربما جميع المراسلين. فرشت السجاد الأحمر أمام مدخل النادي، زيّنت القاعة الحزينة بالزهور والألوان، عملت الموسيقى، وودعت الطابق الثالث بتلك الابتسامة التي تعلق بين الجفون وتحتل القلوب. أعان الله أم ألكسا. أعان الله أهالي جميع الضحايا من أين ما أتوا ليخدموا خدمة مدنية أو في عملية حفظ السلام في هايتي، إنما أولاً وقبل أي شيء أعان الله أهالي هايتي على هذه المصيبة التي أتت بها الطبيعة عليهم فقتلت 75 ألفاً، وتركت وراءها 250 ألف جريح وأكثر من 300 ألف مشرد. العالم بأكثريته، انتفض ذعراً لدى مشاهدته الجثث المتراكمة وسط الدمار الهائل. تدفقت المعونات واحتشدت الدول والمنظمات غير الحكومية وراء حملات، بعضها لا سابقة له شدّت إليها مساهمات الشباب في الجامعات والمدارس الى جانب مساهمات العريقين في مد يد المساعدة. ذهبت المنظمات الإنسانية الى الإبداع عند الحاجة فاستطاعت جمع ملايين الدولارات، مثلاً، من خلال رسالة إلكترونية عبر الهاتف الجوال سهّلت على الناس التبرع بمجرد ضغط خمسة أرقام. طبيعي ان يكون تحرك شعوب ودول أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية والبحر الكاريبي أكثر زخماً من تحرك شعوب الدول الأفريقية والعربية، فهايتي في جيرتهم. واضح ان أوروبا أكثر تدريباً على تقديم المعونات في الحالات الطارئة من الدول العربية أو الدول الإسلامية، إنما هذا لا ينفي ان قصوراً حدث من قبل بعض هذه الدول لفت الأنظار وأثار الانتقاد. ربما لم يحسن بعض هذه الدول تسويق ما قدمه سراً لأنه في نظره كان يقوم بعمل خير لا ضرورة للإعلان عنه لتسويق الذات. ربما لم تتحرك بيروقراطية البعض الآخر من الدول بالسرعة الضرورية لتلبية الحاجة الماسة والطارئة شأنها شأن بقية العالم الحضاري مهما كان السبب. ان مثل هذا القصور أثار الملاحظة والنقد ولم يكن أبداً في محله. بعض الدول العربية أدرك حس المسؤولية الجماعية في مثل هذه الأوضاع فتصرف بسرعة وقدم بقدر استطاعته. لبنان لبى النداء العاجل للإغاثة الذي أطلقته الأممالمتحدة فبعث طائرة خاصة محملة بالأدوية والخيم على متنها فريق طبي. لبنان الصغير الذي تتلاعب به المعادلات الإقليمية والدولية ويقع ضحية مزايدات قياداته الداخلية تصرف بما يستحق التقدير والتهنئة على الحس الإنساني وكذلك على حس المسؤولية عن اللبنانيين في الخارج. ففي هايتي ما يقارب 8 آلاف لبناني في تلك الجزيرة المنكوبة، ثم إن كون لبنان عضواً في مجلس الأمن يجعله يتحمل مسؤولية جماعية خاصة، أحسن ممارستها. أول بلد عربي تجاوب مع مأساة هايتي كان قطر التي أرسلت فريق إغاثة مكوناً من 26 عضواً شمل جنوداً وأفراد شركة وأطباء لتأسيس مستشفى ميداني وتقديم مساعدة للمحتاجين. هذا الى جانب اعتزام إرسال فريق تقويم احتياجات فترة إعادة التأهيل لما بعد الكارثة. الأردن خسر 3 من أبنائه كانوا يعملون كجزء من كتيبة قوة لدعم الاستقرار في هايتي قوامها 950 أردني. وقد توجهت طائرة تابعة لسلاح الجو الملكي الأردني الى هايتي محملة بما يلزم لتأسيس مستشفى ميداني عسكري، إضافة الى أطنان من الأدوية والمواد الغذائية والملابس تبعتها طائرة عسكرية ثانية محملة بأطقم طبية ومعدات. المغرب تجاوب بالتبرع بما قيمته مليون دولار من الأدوية. والبحرين تبرعت بمليون دولار وكذلك الكويت. دولة الإمارات العربية حركت طائرات جسرها الجوي لإغاثة ضحايا الزلزال وتوفير الخيم. هذا الى جانب التبرع بالأموال والملابس والمواد الغذائية والأدوية عبر المؤسسات الخيرية بما يضاهي مليوني دولار. حتى الفلسطينيون في غزة بعثوا ما في قدرتهم من مال وملابس وطعام تبرعوا بها الى الصليب الأحمر لإغاثة هايتي. مصر أصدرت تعليمات بتوفير المساعدة إنما لم تفعّلها. سورية تقدمت بالتعزية والتعاطف. الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أكمل الدين إحسان أوغلو ناشد الدول الإسلامية مضاعفة مساعداتها الى هايتي مشيداً بمن بادر إليها وغامزاً من الدول الأخرى القادرة إنما فاتتها سرعة البديهة إلى ضرورة المساعدة. الدولة الرائدة في تقديم المساعدة الى هايتي حكومة وشعباً هي الولاياتالمتحدة بلا شك. خلال يومين فقط وصل الى هايتي 10 آلاف جندي اميركي ساهموا في رفع الجثث من تحت الأنقاض وفي مساندة الحكومة التي نكبها الزلزال ودمر مؤسساتها وبنيتها التحتية. سيطرت القوات الأميركية على الأمن للحؤول دون تفاقم الأوضاع المأسوية بسبب الفوضى واليأس العارم. أشرفت على حركة المطار فنظمت هبوط مئة طائرة يومياً في ذلك المطار الصغير. سعت وراء تنسيق تدفق الطائرات الحكومية وكذلك تدفق المنظمات الإنسانية لمد العون. على رغم هذا تلقت الولاياتالمتحدة اللوم والتشكيك فهاجمتها وسائل إعلام في فنزويلا وقطر مثلاً على حجم تواجدها العسكري مستخدمة كلمة «احتلال» أميركي لهايتي، وانتقدتها الدول والمنظمات التي أرادت ان تهبط طائراتها فوراً موجهة إليها تهمة التصرف لغايات سياسية. الأممالمتحدة أيضاً لاقت الانتقاد لا سيما الأمين العام بان كي مون الذي قالت بعض الوسائل الإعلامية انه فشل في التعاطي مع زلزال هايتي كما سبق وفشل الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش في التعاطي مع إعصار كاترينا. بعض الإعلام وجد بان كي مون بيروقراطياً فوق العادة يفتقد حسن التصرف السريع الضروري في الحالات الطارئة. انتقده بشكل خاص على بطئه وعدم إدراكه حجم الحدث خلال ال24 ساعة الأولى من أكبر كارثة حلت بالأممالمتحدة وأودت حتى الآن بحياة حوالى 50 شخصاً وما زال 300موظفاً تابعاً للأمم المتحدة مجهولي المصير. آخرون، لا سيما من الديبلوماسيين، نظروا الى الأمر بمنظار ذي شقين: قدرات الأممالمتحدة ومستقبل بان كي مون. كثير من الديبلوماسيين رأى انه لم يكن ممكناً للأمم المتحدة القيام بأكثر مما قامت به تحت الظروف الفائقة الصعوبة في بلد نُكب بين ليلة وضحاها. فليست لدى الأممالمتحدة قدرات الولاياتالمتحدة على رغم ان قوام «قوة دعم الاستقرار» في هايتي 7 آلاف جندي وألفا رجل شرطة أجمع مجلس الأمن هذا الأسبوع على زيادة عددها ب3500 عنصر اضافي. الأممالمتحدة تتولى رسمياً مهمة التنسيق إنما ميكانيزم التنسيق في حالة طارئة كهذه ليس متماسكاً كلياً. فالولاياتالمتحدة مثلاً لن تتمكن من مد مساعداتها الى هايتي عبر ميكانيزم الأممالمتحدة المثقل عامة بالكثير من البيروقراطية. هذا الى جانب إيضاح الطرف الأميركي ان الوجود الأميركي العسكري هناك مسألة ثنائية غير خاضعة للأمم المتحدة. هذا من ناحية القدرات. اما من ناحية مستقبل بان كي مون كأمين عام، فقد تكون هايتي أهم نقطة تحول في مستقبله إذا شاء ان يترشح لولاية ثانية - ذلك ان موعد الترشيح عام 2011 يضعه منذ الآن تحت المراقبة. حدث هايتي المرعب أطلق مآخذ عدة على بان كي مون ليس من الإعلام فقط إنما من الدول ومن بينها فرنسا وروسيا. هذه المآخذ تتضاعف وطأتها في ظل الترهل العام للأمم المتحدة في الآونة الأخيرة وأرجحية ازدياده بسبب تجديد المبنى الأساسي وما يترتب على ذلك من عواقب المرحلة الانتقالية وتقطّع أوصال المنظمة. إنما هناك أيضاً إمكانية تجاوز بان كي مون هذه المآخذ إذا أحسن الإدارة في مرحلة ما بعد الزلزال الكارثة الذي أصاب جزيرة هايتي وما تتطلبه تلك الجزيرة بعد انتشال الجثث من الأنقاض. مأساة هايتي متعددة الأسباب والأبعاد. فقد كان قدر من ذهب ضحية الزلزال انه ضرب في الساعة 4.53 تماماً قبيل نهاية الدوام الرسمي ب7 دقائق فقط. هكذا شاء القدر وهكذا وقعت المصيبة أولاً على البلد وأهله، لتطال ايضاً أسرة الأممالمتحدة.