ولد الفقر الحديث من ثورة الوفرة والرخاء. فمن 1820 الى اليوم، تعاظمت القوة الشرائية بأوروبا الغربية 20 ضعفاً (محتسبة على السعر الثابت). وزاد متوسط العمر المتوقع والمرجو عند الولادة 40 عاماً، وتقلص التفاوت بين الأغنياء والفقراء الى سدس ما كانه في مطالع القرن التاسع عشر. ويذهب بعض الدارسين والمراقبين الى أن الإنجاز الكبير هذا لم يقلل الإحساس بالفقر في مجتمعات مصابة ب «إدمان النمو»، وفاقم الشعور بالإحباط، وضحى بالأرض على مائدة حضارة مادية مهمة. ويعود ابتداء النظرة المأسوية والحديثة هذه الى الفقر، الى الأعوام 1820 - 1840، والى ظهور أعراض الثورة الصناعية في بريطانيا (العظمى) في اثناء عقدي 1770 و1780. ووقعت التهمة على ثورة الحداثة الصناعية والاقتصادية قبل أن «تنتج» فقراءها «الجدد». ودخلت لفظة «الإدقاع المتعاظم» (بوبيريسم)، أو البؤس، التداول العام (الفرنسي) في 1822، نقلاً عن الإنكليزية ونحتاً. وجمعت اللفظة علتين محدثتين وجديدتين هما فقر اليد العاملة ووفرة السلع المفرطة. وخالفت الحال الجديدة الحال السابقة. ففي عهد غلبة النظام الزراعي القديم، كان «الفقراء» كثيرين. ولكن فقرهم كان غائم المعايير ورجراجاً، من وجه. وكان، من وجه آخر، قسمة عامة ويومية تصيب اقتصاداً ومجتمعاً تحت رحمة النوازل الطبيعية والسكانية الطارئة. وعلى هذا، عصي تمييز الفقراء من جملة العاملين والحرفيين المياومين وكتلتهم الكبيرة. وإحدى القرائن على عسر التمييز سكوت لوائح نواب الجمعية البرلمانية العمومية، في 1789 (ابتداء الثورة الفرنسية الكبرى)، عن مسألة الفقر والفقراء. وهذه اللوائح دونت آراء الأهالي في الأرياف النائية، ونقلتها. فهي ميزان رأي عام في طور الظهور وتبلور العبارة. وبعض الاقتصاديين المعاصرين قادتهم استقصاءاتهم الإحصائية الى الملاحظة أن مستوى معيشة العبد الرقيق الروماني لا يختلف اختلافاً بيّناً عن مستوى معيشة فلاح الريف الفرنسي في القرن السابع عشر، أو عن مستوى معيشة عامل الصناعة الكبيرة في أوائل القرن التاسع عشر. وفحص الهياكل العظمية، أي قياس قامات أصحابها، يدل على ضآلة الفرق بينها منذ عصر الصيد والقطاف الى مطالع القرن التاسع عشر. وبرهن فردينان لاسال، أحد قادة الحركة العمالية الألمانية، في 1850 على ما سماه «قانون (الأجر) الفولاذي». وينص «القانون» على أن أجر العامل، في الأحوال والعصور كلها، لا يتعدى القيام بأود احتياجات العامل الحيوية، وشراء ما يديم العيش أو البقاء على المستوى الأدنى هذا. وكان وزير «الاقتصاد والمال» الفرنسي، تورغو، أوضح في 1766 أن أجر العامل تحده منافسة العمال على العمل، ويقتصر، جراء المنافسة، على توافر القوت الضروري. وحكم الضرورة، وهو مرادف الفولاذية، يميز الفقر الجديد والصناعي من الفقر القديم، الزراعي في معظمه. وفي مجتمعات النظام القديم، عشية الثورة الصناعية، كان مظهر الفقر البارز هو الاستعطاء أو الشحاذة والسؤال. وارتسمت سمات فقر كادح، ناجم عن العمل المجهد والطويل، وعن قيوده، وليس عن المجاعات والأوبئة والبطالة والتشرد. وهذا هو الفرق البارز بين الفقر القديم وبين الفقر الحادث والمولود من ثورة الصناعة. وتصف إحصاءات الدارسين المعاصرين الفقر الحادث بالأرقام، فبلغ الأجر السنوي الذي كان يتقاضاه العامل في 1846، محتسباً على قوة النقد الشرائية (الثابتة)، نحو 150 دولاراً أميركياً (107 يورو بقيمة 2008) وينقص المبلغ هذا عن نظيره في 1826، وكان نحو 170 دولاراً (123 يورو). ويعود الى عقد 1850 ابتداء انحسار الفقر، والخطوات الأولى على طريق إطفاء الادقاع والبؤس. فبين 1846 و1913 زاد الأجر المتوسط العمالي السنوي، في فرنسا، ضعفي قيمته الإسمية. وبلغ متوسط زيادة قوة الأجر العمالي الشرائية، في أثناء العشرين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر، 1.3 في المئة في السنة الواحدة، وبلغ متوسط هذه الزيادة، في 1846 - 1872، 1.7 في المئة. وهذا نظير «الأعوام الثلاثين المجيدة» المعاصرة، 1945 - 1973. وزاد متوسط الأجر الاسمي الزراعي (الفلاحي) بين 1850 و1907، ما لا يقل عن 100 في المئة. وبلغ الفرق في 1890، بين متوسط العائد الفردي، في فئة ال10 في المئة الأغنى من السكان، وبين نظيره في فئة ال10 في المئة الأشد فقراً، 10.8 أضعاف. وسبق أن كان الفرق بين الفئتين، في 1780، 19 ضعفاً. ويعزى بعض هذا الازدهار الى ظرف اقتصادي استثنائي نجم عن اكتشاف مناجم ذهب بأستراليا وكاليفورنيا، في 1848 - 1850. واضطلعت سياسة الامبراطور الفرنسي، نابليون الثالث، بشطر من الإنجاز. فهو اعتنى بتمويل المساكن العمالية، ومصير الأيتام، وتوزيع الطعام على المحتاجين من طريق ما سمي ب «الأفران الاقتصادية» («مطاعم القلب» المجانية). وفي أثناء 20 عاماً من عهده (1850 - 1870) تعاظم استهلاك لحوم الذبائح في أوساط الريفيين 40 في المئة، واستهلاك السكر من 3.3 كلغ للفرد الى 7.2 كلغ. وبعض كبار الصناعيين، من أمثال ويندِل وشنايدر ودولفوس ودو ديتريش، حملتهم أبويتهم الاجتماعية، واعتقادهم الديني، على تولي بعض أعباء بناء مساكن عمالهم، وإنشاء صناديق التعاضد والتكافل وأنظمة التقاعد عن العمل، وتشييد المدارس والمستشفيات ودور الغذاء (محال مبيع السلع الغذائية) والمكتبات. وكتب أحد دارسي الاقتصاد البارزين، فريديريك لويلاي، وهو أحد مستشاري نابليون الثالث ومؤسس جمعية الاقتصاد الاجتماعي (1856)، ان الإنجازات الاجتماعية هذه هي «الوسيلة الوحيدة لتمجيد ثورة 1789 وتتويجها وختامها الختام الذي تستحقه». وعمد أوتو فون بيسمارك، مستشار ألمانيا الموحدة الأول في 1871، الى إرساء اللبنات الأولى من دولة الرعاية، الموكل إليها حماية الضعفاء من «هشاشة الحياة» وتقلباتها. ودعا المستشار «الحديدي» الى سياسته الاجتماعية المبتكرة تعاظم قوة الحزب الاشتراكي - الديموقراطي. وأراد تعويض نهج القمع السياسي المتشدد بسياسة اجتماعية نشطة. فألزم قانون 15 حزيران (يونيو) 1883 الصناعات ضمان مرض العمال الذين لا يتخطى أجرهم السنوي 2000 مارك (والمبلغ ضعفا متوسط الأجر العمالي السنوي يومذاك). وجبى صندوق الضمان الصحي الإلزامي ثلثي الاشتراك من العمال والثلث الأخير من أصحاب العمل. وتولى العمال إدارة صناديق الضمان الاجتماعي، وهم غالبية مجالسها. وألزم قانون 1884، في حوادث العمل، أصحاب العمل صرف 66.6 في المئة من أجر العامل المصاب بعجز كامل عن العمل، وصرف 20 في المئة إضافية الى أرملة العامل المتوفى، الى 15 في المئة للولد الواحد والبالغ أقل من 15 سنة. وأنشأ قانون 1889 في ضمان الشيخوخة والعطالة أول نظام تقاعدي يغذيه العمال وأصحاب العمل مناصفة. واقترح جون ماينار كينز، صاحب «الكينزية» البريطاني، في أوائل الثلث الثاني من القرن العشرين، توزيع الثروة وزيادة الإنفاق على الاستهلاك الجاري علاجاً للفقر الذي يرافق الوفرة والرخاء. وكتب يورد بيفيريندج في 1942 «تقريراً الى البرلمان في الضمان الاجتماعي والخدمات المتصلة به» اقترح فيه ضمان مستوى معيشي للأفراد كلهم بمعزل من محلهم في سوق العمل، ولا يجوز أن يعيش أحد دون المستوى هذا. ومنذ 1945، زاد متوسط دخل الفرنسي 5 أضعاف. وتقلص فرق متوسط دخل ال10 في المئة الأغنى ونظيره في ال10 في المئة الأشد فقراً الى ثلاثة أضعاف (وكان 9 أضعاف في 1929). و7 في المئة من الأسر الفرنسية يعتاشون بأقل من 50 في المئة من متوسط الدخل الوطني. وعليه، يبلغ عدد من يُعدون فقراء 4 ملايين الى 8 ملايين. وهم من لا يتمتعون بمسكن مناسب، ولا يتناولون الغذاء الكافي، ويحصون في المستبعدين والمفتقرين الى الحقوق و «لا يبيتون تحت سقف ثابت». ويحتاج 8 الى 10 في المئة من السكان الى المساعدة، أو الى «التقديمات» المجانية. وهذا هو التعريف الجامع الذي انتهى إليه، في 1907، الباحث الألماني في الاجتماعيات، جورج سيميل. فالفقير «المعاصر» ليس من يفتقر الى هذا الشيء أو ذاك، بل من يحتاج، في أثناء مدة من الزمن أو على الدوام، الى تقديمات تمكنه من تلبية احتياجات عامة تقر المعايير السائرة عمومها، والحق فيها. والفقراء هم من تعوقهم «حوادث الحياة» عن العمل، وليسوا عمال الصناعة. ومعظمهم، من الشباب الذين لا سند عائلياً لهم، أو تركوا المدرسة من غير تأهيل، ومن المسجونين السابقين، وضحايا تقطع الأواصر العاطفية والمشكلات الصحية والاكتئاب، وأولاد الأسر التي يرعاها «والد» واحد من الوالدين. وثلث الأسر الفقيرة يخرجون من الفقر العام التالي، وينقلب الى الفقر 6 في المئة ممن لم يكونوا، العام الفائت، فقراء. ويعصى الفهم كيف يعجز عن معالجة الفقر بلد يقتطع 50 في المئة من ثروته. فيرسف في نظام «الحدود الدنيا الاجتماعية» من التقديمات المجانية هذا الشطر من سكانه. * مؤرخ اقتصادي وأستاذ جامعي، عن «ليستوار» الفرنسية، 1/2010، إعداد و. ش.