طوال نحو عقدين، بين أواسط خمسينات القرن العشرين وأواسط سبعيناته، تحققت هيمنة «تقدمية» واسعة في بلدان المشرق العربي، وصعدت إلى السلطة مجموعات «قومية اشتراكية»، ترابطَ في تفكيرها «النضال القومي» ضد الامبريالية بصفتها فاعل تجزئة في «الوطن العربي» وراعية دولة الاحتلال الإسرائيلي مع «النضال الاشتراكي» الموجه بدوره ضد الامبريالية بوصفها علاقة تبعية. وبعد صوغ العلاقة بين النضالين بلغة التلازم على يد ياسين الحافظ في مطالع ستينات القرن الماضي، قرر مهدي عامل في أواخر سبعيناته وحدتهما أو تماهيهما. النضال الوطني، بلغته، هو هو النضال الطبقي. يغيب عن أفق هذه الإشكالية مفهوم الدولة. ينظر إليها عموماً نظرة أداتية، تضعها في خدمة تحقيق الأهداف القومية الاشتراكية التي لا تتحقق عملياً من دون السيطرة على الدولة أو الاستيلاء عليها. يحصل أن توصف الدولة المرغوبة بأنها اشتراكية أو وطنية، لكن المقصود هو أن النخب القائدة لها تحمل إيديولوجية اشتراكية ووطنية. يحصل أيضاً أن توصف دول قائمة بأنها رأسمالية تابعة أو رجعية، لكن لا شيء يقال عن بنية الدولة وهياكلها وعلاقتها بمجتمع المحكومين وآليات صنع القرار فيها ومدى انضباطها بقوانين مرعية وضمانها المساواة الحقوقية والسياسية بين سكانها. وبدءاً من النصف الثاني من سبعينات القرن نفسه، أخذت تدين الهيمنة للفكرة الديموقراطية التي تنشغل أولاً وأساساً بالدولة. وخلال الثمانينات ألفت بالعربية وترجمت من لغات أوروبية أدبيات متنوعة عن الدولة وعمليات صنع القرار فيها وعن العلاقة بين الدولة والمجتمع وآليات انتقال السلطة، وبرزت قضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان المنتهكة أساساً، بل حصراً، من الدولة الاستبدادية. وعلى نحو ما عرّفت «التقدمية» نفسها بالتقابل مع «الرجعية»، الموصوفة بالعمالة للاستعمار والمحافظة الاجتماعية والثقافية، عرّفت الديموقراطية نفسها بالتقابل مع الاستبداد، وهذا التقابل يقلل من قيمة التمايز السابق، وتكاد تتلخص «نظريته» في أنه ليس فوق رجعية الاستبداد رجعية، على نحو ما عبر المرحوم جمال الأتاسي قبل وفاته (عام 2000) بسنوات. وكان ياسين الحافظ نفسه ثمّن الديموقراطية اللبنانية على علات لها لم تكن خافية عنه، فيما قلل من شأن الفرق بين «تأخرالية» (تأخر رأسمالي) و «تأخراكية» (تأخر اشتراكي). في أساس هذا الموقف، تحوّلٌ من التمركز حول الامبريالية الذي ميز الإشكالية التقدمية إلى تفكير متوجه نحو بنى الداخل الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية. لكن على نحو ما جعلت الإشكالية التقدمية الدولة غير مرئية، جعلت الإشكالية الديموقراطية الدين غير مرئي. طوال عقدين أو أكثر من هيمنته قلما انشغل التفكير الديموقراطي بالمسألة الدينية، هذا حين لم ير في الإسلاميين سنداً لتطلعاته التغييرية المضادة ل «الدولة الاستبدادية». الواقع أن سنوات الهيمنة الديموقراطية في أوساط «الانتلجنسيا» العربية (لم يحكم الديموقراطيون أي بلد، خلافاً للتقدميين) هي ذاتها سنوات صعود الحركات الإسلامية، أو ما يسميه الإيديولوجيون الإسلاميون «الصحوة الإسلامية». لكن السؤال الذي طرحه الديموقراطيون وعموم المثقفين على أنفسهم بخصوص الظاهرة الإسلامية كان منصباً أساساً على «أسبابها». وعلى تنوع في إجابات السؤال، كان المشترك بينها يحيل إلى قصور متعدد الوجوه للدولة: اقتصادي واجتماعي وديموغرافي، فوق استبداديتها التي بلغت بالفعل في عقدي القرن العشرين الأخيرين مرتبة الطغيان الأهوج. في المقابل، قلما طرح حينها سؤال حول الصفة الإسلامية لتلك الحركات، أعني تعاليمها وعقائدها، أو التعاليم والعقائد الإسلامية التي تصدر عنها. لكن شيئاً فشيئاً منذ التسعينات تحولت بؤرة التركيز من أسباب ظهور تلك الحركات، إلى تفكيرها وعقلها ومرجعيتها، «الإسلام». أما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فانتقل «الإسلام» إلى لب النقاش السياسي والفكري، لدينا كما في الغرب. وبموازاة ذلك صعدت إشكالية جديدة متمركزة حول الدين، بينما تشغل الدولة حيزاً هامشياً فيها، هذا حين لا تعتبر سنداً محتملاً: إشكالية العلمانية. ومثل الدولة توارت عن الأنظار تقريباً قضايا السيطرة الدولية التي كانت تنشغل بها الإشكالية التقدمية. والواقع أن لا صعود الفكرة الديموقراطية عنى زوال تيار إيديولوجي وسياسي قومي اشتراكي، ولا آذن صعود إشكالية العلمانية بزوال التيار الديموقراطي. لكن من منظور أي من هذه التيارات الثلاثة لا تكاد القضايا التي يطرحها التياران الآخران تكون مفهومة أو قابلة للشرح. ولا يندر أن يجرى تبادل الاتهامات بين من يعتبرون أنفسهم ممثلين لهذه التيارات، كل وفق معجمه وحساسياته. كأننا نناضل من أجل دوام النظرة التجزيئية. على أن عالم ما بعد 11 أيلول الذي أعطى دفعة للانشغال بقضايا الدين والعلمانية هو نفسه العالم الموسوم في شكل متجدد من السيطرة الاستعمارية، وهو نفسه أيضاً العالم الذي تبدو فيه بلداننا متوزعة بين استبداد خانق وبين تفكك داهم. لا يبدو، والحال كذلك، أنه يمكن القفز على أي من الإشكاليات الثلاث، ولا الاكتفاء بأي منها. التفكير السياسي العربي يبدو مشلولاً أمام هذا الواقع، لا يكاد يحرك ساكناً حياله. وفي ما نرى، لا يجدي استنفار المقاربات القومية والديموقراطية التقليدية، أما المقاربة العلمانية الرائجة فلا تصلح لشيء. الانطلاق من أي منها يعطي صورة مجزأة عن واقع مركب، يتعذر شرحه أو العمل فيه من دون رؤيته ككل. في المقابل، لا يبدو أن هناك جهوداً تبذل لتجديد التفكير في كل منها وفيها معاً. المزاج المهيمن في أوساطنا لا يبدو متعباً مستسلماً فقط، بل يكاد يكون متشككاً وساخراً إزاء إعادة النظر بجدية في إشكاليات الماضي القريب. هناك مسائل كثيرة، كل المسائل، لا تناقش اليوم ولا يستأنف التفكير بها، تترك للإهمال والسخرية. وعلى هذا النحو ترتسم لوحة يتقابل فيها إيديولوجيون ثقلاء متعنتون مقابل نافضي أيدي مستخفين وخفيفين. كذلك لا يفي بالحاجة نقد الإيديولوجيات المألوف. إن مشكلة جميع الإيديولوجيات لا يمكن أن تكون مشكلة إيديولوجية، تحل بالاستبدال الإيديولوجي أو اعتناق إيديولوجية جديدة. لدينا واقع مركب، تتداخل فيه مشكلات الدولة والدين والعلاقات الدولية، فلا يسع أية تمثيلات مبسطة أن تحيط به. لكن يمكن تكشف مشكلة الإيديولوجيات ونقدها أن يكونا فرصة سانحة لتعرف أوثق على هذا الواقع المركب. من شأن نقد العلمانية أن يكون مدخلاً إلى دراسة الشأن الديني، ويسع نقد الديموقراطية أن يكون فرصة لدراسة الدولة والمجتمع، وينفتح نقد التقدمية على دراسة التاريخ، فيما يصلح نقد القومية باباً إلى تحليل العلاقات الدولية والعالم المعاصر. على هذه الصورة ينفتح نقد ايديولوجياتنا على العلوم الاجتماعية، أو بعبارة أبسط على معارف أكثر انضباطاً وأقل انفعالاً. الأمر الذي نرجح أنه يسهل أمر العلمانية والديموقراطية والتقدمية أيضاً.