في سنة 1989 نشرت مجلة «تايم» الأميركية تحقيقاً تحت عنوان «هل آن أوان بناء الهيكل الجديد؟» ووضعت المجلة عنواناً فرعياً بلغة الكلام المزدوج التي تجيدها كتيبة الإعلام العالمي والأميركي تحديداً الداعمة لإسرائيل يقول: «إن اليهود التقليديين يأملون في تشييد بنائهم المقدس، لكن مسجداً وقروناً من العداء تقف في طريقهم». والمعنى الواضح هو أن اليهود المتدينين الطيبين يريدون العودة للصلاة في معبدهم التاريخي، لكن المسلمين بمسجدهم الأقصى وعدائهم الديني الضارب في القدم يقفون في طريق اليهود ويحرمونهم من تشييد بنائهم المقدس. وفي تحقيقها تشير المجلة كذلك إلى أن «إعادة بناء الهيكل لم تكن قضية مثارة إلى أن استولت إسرائيل على جبل الهيكل ومدينة القدس القديمة وأن إسرائيل نظراً لحرصها على صون السلام واصلت السماح للمسلمين بإدارة الموقع، غير أن المسلمين لا يسمحون ليهودي أو مسيحي بإقامة شعائر الصلاة علناً على الأرض المقدسة لذلك الجبل، ولم يبدوا أدنى استعداد للسماح ببناء أبسط معبد يهودي أو كنيسة، كما أن أقل حركة تشير إلى موضوع إعادة بناء الهيكل تثير المسلمين الذين عقدوا العزم تبعاً لما صرح به أحد مسؤولي المسجد الأقصى على الدفاع عن الأماكن الإسلامية المقدسة إلى آخر قطرة في دمائهم». هكذا كانت الآلة الإعلامية الأميركية المدفوعة لصالح الفكر اليهودي تعمل في الولاياتالمتحدة الأميركية وفي غيرها من دول الغرب تجاه واحدة من أعقد أساطير اليهود حتى الساعة... ماذا عن تلك الأسطورة؟ الثابت أن التراث الديني اليهودي مستقر على أن أمر الله في العهد القديم «التوراة» ببناء الهيكل هو شأن لا رجعة فيه وهذا الفكر الدوغمائي غير القابل للنقاش يسيطر على تفكير العشرات بل المئات من المنظمات اليهودية في القدس والتي تعتبر مسألة بناء الهيكل مسألة مقضياً بها، ويمكن وصف تلك المنظمات بأنها شديدة التعصب، بالغة الحماسة، نشطة في الإعداد لبناء الهيكل حتى لو قاد الأمر إلى كارثة كبرى. يتساءل المرء: ما هو تاريخ هذا الهيكل المزعوم وماذا عن أبعاده الدينية، وهل هو حقيقة إيمانية أم مجرد تهويمات منحولة؟ من دون إغراق القارئ في تفاصيل الفكر الديني اليهودي نقول إن المعبد بادئ ذي بدء هو مكان العبادة لشعب إسرائيل، على أنه عبر تاريخهم كان هناك ثلاثة هياكل وليس هيكلاً واحداً وكلها بنيت وهدمت ويمكن الإشارة إليها من دون تطويل ممل أو اختصار مخل في السطور التالية: هيكل سليمان بني للمرة الأولى في عهد الملك سليمان بن داود وكان ذلك في حوالي عام 1004 قبل الميلاد وهدم في حوالي 587 قبل الميلاد على يد ملك بابل الشهير نبوخذ نصر، حينما سقطت أورشليم في أيدي البابليين وقد تنبأ عن إعادة بنائه النبي زكريا حوالي عام 518 ق. م وتحققت النبوءة. هيكل زروبابل: كان بناؤه عام 150 قبل الميلاد وسمي كذلك نسبة إلى زروبابل حاكم اليهودية آنذاك وكان ذلك بأمر الملك قورش ملك فارس وقد دمره الوالي الروماني انطيوخوس الرابع 163 ق.م. هيكل هيرودس: وقد بني على يد ملك اليهود هيرودس الكبير ابتداء من سنة 19 ق.م وظل البناء فيه قائماً حتى عام 64 بعد الميلاد ولم يمض بعد ذلك إلا سنوات حتى دمره نهائياً القائد الروماني تيطس سنة 70 ميلادية. والشاهد أنه إذا كانت الهياكل الثلاثة السابقة قد أصابها ما أصابها، فلماذا العودة من جديد إلى المناداة ببناء هيكل آخر؟ ومن المؤسف أن بعض التيارات المغالية في التماهي مع اليهود من المسيحيين المتصهينين يمضون في طريق تصديق خرافة محتواها أن بناء الهيكل من جديد هو الطريق لعودة المسيح إلى الأرض ثانية وقيام ما يسمى بالملك الألفي، أي أن تشهد الأرض حكماً إلهياً مدته ألف سنة، ولذلك تجد فكرة إعادة بناء الهيكل زخماً عند تيارات غربية كثيرة وإن كانت الكنائس الكبرى حول العالم كالكاثوليكية والأرثوذكسية ترفض هذا الفكر المنحول. يخبرنا المؤرخ اليهودي الشهير يوسيفوس في كتابه «حروب اليهود – الجزء السادس» الفصلين الرابع والخامس، بتفاصيل ما جرى، ذلك أنه لما استولى عساكر الرومان على مدينة القدس وكان ذلك في حوالي سنة 70 ميلادية لمواجهة التمرد اليهودي ضد الحكم الروماني، أحرقوا المعبد ودمروا الهيكل عن آخره، وكان الهيكل في نظر الرومان ليس مجرد معبد ديني، لكنه كان لليهود قلعة وحصناً، ولم يكن من سبيل لوقف عناد اليهود وتصلبهم في مقاومة الرومان إلا بتدمير الهيكل نفسه، وهو مجد اليهود ورمز فخرهم وزهوهم واستعلائهم على كل شعوب الأرض وهكذا تم خراب الهيكل وتمت نبوءة السيد المسيح: «لن يترك فيه حجر على حجر إلا وينقض». حاول اليهود مراراً وتكراراً إعادة بناء الهيكل لإظهار كذب المسيح ذاته، واتفق أن كان هناك أحد الأباطرة الرومان ويدعى يوليانوس المرتد وسمي بذلك لأنه عاد إلى عبادة الأوثان بعد أن كانت المسيحية قد أضحت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. غير أن ما جرى كما وصفه مؤرخ يوناني عجيب جداً إذ يقول: «إنه في الليلة التالية لبدء اليهود عملهم حدث زلزال مخيف حطم الأحجار التي كانت لا تزال في الأساسات القديمة للهيكل الذي تدمر، الأمر الذي روع له اليهود جداً فلما وصلت أنباء هذا الزلزال إلى اليهود المقيمين في الأماكن البعيدة هرعوا بأعداد كبيرة إلى مكان الهيكل حيث حدث الزلزال ثم إذا فجأة بنار تنزل من السماء لتحرق جميع أدوات البناء وظلت النار مشتعلة لمدة يوم كامل، فأتلفت الفؤوس والأدوات الحديدية والمناشير والمطارق وبالإجمال دمرت النار مختلف الغدوات التي حصل عليها البناؤون لإنجاز العمل». لم تعد هناك إذن نبؤة تنتظر التحقق بعد، لكن الأيادي الهمجية تحاول منذ زمان وزمانين إعادة محاولة يوليانوس المرتد عبر هدم الأقصى وبناء الهيكل في موقعه وموضعه... كيف ذلك؟ يسجل قائد المنطقة الوسطى الإسرائيلية في حرب عام 1967 الجنرال الإسرائيلي اوزي ناركيس في مذكراته ما نصه: «إنني وقفت بجوار الحاخامات وهم يتلون بعض الأدعية بصوت عال وسط تزاحم ضباط وجنود من الوحدات جاؤوا لمشاهدة الحائط وملامسته تبركاً... كان ذلك بعد نصف ساعة تقريباً من وقوف موشي ديان، وإسحق رابين، واوزي ناركيس (جنرالات إسرائيل الكبار وقتها) صباح السابع من حزيران (يونيو) 1967 أمام حائط المبكى. في تلك اللحظات، يقول ناركيس، «هرع إلى الموقع كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي الجنرال شلومو غوربين وأخذني من يدي جانباً وقال لي همساً: أليست هذه هي اللحظة المناسبة لوضع مئة كيلوغرام من المفرقعات في مسجد عمر، وقبة الصخرة، حتى تتوقف دعاوى المسلمين بوجود حق ديني أو تاريخي لهم في القدس؟». ويضيف ناركيس: قلت لكبير الحاخامات «أرجوك ذلك أمر لا داعي له وسوف يثير علينا الدنيا كلها، وسألني أي دنيا سوف يثيرها؟»، وقلت له: «المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا التي لها صداقات كثيرة تحرص عليها في المنطقة، ونحن أيضاً لنا أصدقاء في العالم الإسلامي، ولكن كبير الحاخامات أصر على مواصلة دعوته قائلاً لي: « اوزي هذه فرصتك لدخول التاريخ وأنت تضيعها»، ورددت مضطراً عليه: «بأنني سجلت اسمي في كتب التاريخ بدخول القدس وانتهى الأمر، وأدار كبير الحاخامات ظهره لي ومشى بعيداً». وتبقى علامة الاستفهام في هذا المقام: هل توقفت محاولات هدم الأقصى بعد ذلك أم مضت على قدم وساق من أجل بناء الهيكل الجديد؟ واقع الحال يشير إلى أن المحاولات مستمرة والنيات العدوانية مستقرة منذ عام 1967 مروراً بعام 1969 أي وقت الحريق الكبير الذي اشتعل في الأقصى، وصولاً إلى الأيام الأخيرة التي شهدت حفر أنفاق وإحداث هزات أرضية، ناهيك عن تزوير تاريخ المنطقة برمتها. وبحسب الادعاءات اليهودية التي تجد كثيراً من دعم أصوليين مسيحيين غربيين خصوصاً في الولاياتالمتحدة الأميركية فإن المسجد الأقصى بني فوق أساسات الهيكل الثاني. وفي هذا السياق كان طبيعياً أن تنشأ مؤسسات مثل «مؤسسة هيكل أورشليم» بغرض محدد هو مساعدة أولئك الذين ينوون تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل مكانه». ويبقى بديهياً أن يخطط البعض مثل الضابط الإسرائيلي مناحم ليفني عام 1985 لنسف المسجد عبر خطة عسكرية، فالرجل كان أحد أعضاء كتلة المؤمنين وقائد كتيبة مهندسين في جيش الاحتلال، وفي الوقت ذاته كان قائد وحدة من وحدات الحركة الزيلوتية (حماة العقيدة) الإرهابية لمنظمة «غوش ايمونيم»، فقد تمكن ليفني من الحصول على صور استطلاع جوي التقطت للموقع كله، ثم جند أحد الطيارين العسكريين واتفق معه على قصف المسجد والموقع كله من الجو، لكن السلطات العسكرية أوقفت التنفيذ لأن اشتراك أحد الطيارين العسكريين كان حرياً بأن يكشف عن اشتراك حكومي في العملية. على أنه وفي الوقت الذي كانت المؤامرات تحاك لهدم الأقصى كانت خطوات عملية تتخذ في طريق بناء الهيكل الجديد. والثابت أنه إذا كان العسكريون يمضون في خططهم المسلحة لهدم الأقصى، فإن المنظرين من فلاسفة اليهود أمثال يهودا اتزيون الفيلسوف الإيديولوجي للزيلوت الجدد يحث دائماً جماعات «مؤمني الهيكل» على حتمية النهوض بواجبهم الديني وإزالة الحرم الشريف من الوجود «لأنه – بحسب زعمهم - مقام على أنقاض الهيكل الذي هدمه الرومان، ولا يتوقف الأمر على التنظير الفكري، بل يمتد عمل هؤلاء وأولئك من المنظرين والأتباع إلى الإجراءات العملية للإعداد لبناء الهيكل وقد شمل هذا النشاط الحصول على عدد من الدعامات الخشبية الضخمة التي يعتقد أنها استنقذت من أنقاض الهيكل سنة 70 ميلادية لاستخدامها تبركاً لتكون بين دعامات الهيكل الجديد الذي يعرض المؤمنون نموذجه المصغر من الآن في إحدى قاعات فندق «الأراضي المقدسة» في القدس، والذي تعد رسومه الهندسية بنشاط بالغ. والمتابع للتصريحات اليهودية المتشددة في الآونة الأخيرة يستمع إلى أقوال عدد من الحاخامات الذين يؤكدون أنهم لن يستطيعوا مفارقة هذا العالم من دون أن يؤمنوا لليهود الصلاة مجدداً على جبل الهيكل، ومن بين هؤلاء نستمع إلى المؤرخ اليهودي ديفيد سولومون، والذي يصرح لمجلة «نيوزويك» الأميركية منذ فترة بالقول: «إن كل يوم يمر على اليهود من دون أن يبدأوا في بناء الهيكل يعتبر وصمة عار في جبين الأمة اليهودية... هل تحول الأمر من مجرد القراءة التوراتية إلى خطوات عملية لإقامة الهيكل الجديد»؟ يبدو مؤكداً أن العمل يجري على قدم وساق لإقامة الهيكل، وقد كثرت الأقاويل في السنين الأخيرة حول أحجار الهيكل، وطريقة بنائه وطقوس تقديم الذبائح فيه بل والذبيحة نفسها. أما ما يثير أشد المخاوف فهو الادعاء باكتشاف تابوت العهد الإسرائيلي رمز «الحضرة الإلهية» في وسط شعب إسرائيل في العهد القديم، ذلك أنه بعد استيلاء إسرائيل على حائط البراق عام 1967 قالوا إنهم اكتشفوا تحته وثائق تعلن عن طريقة قطع الأحجار الخاصة بالهيكل بدقة. هذه الرواية أكدها الكاتب الأميركي كولين ديل في كتابه الشهير «عودة المسيح» الصادر في نيويورك عام 1988، أما الأكثر إثارة فقوله: «إنه تم فحص بعض الأحجار القديمة المستخرجة من أنقاض الهيكل القديم فوجدوا أن أكبر حجارة في الهيكل طولها 38 قدماً و 9 بوصات وتزن 100 طن وقيل أنهم وجدوا علامة صنع العمال الفينيقيين ما زالت على هذه الأحجار». والشاهد أنه قد تكون كل هذه التسريبات الإعلامية أكاذيب، وهذا أمر برعت فيه إسرائيل، إلا أنه ومن أسف باتت تلك الأكاذيب تأخذ منحى التصديق العملي، إذ يشير كولن ديل إلى أنه قد تم قطع أحجار الهيكل الجديد تماماً بالحجم نفسه والمواصفات القديمة نفسها، وهذه الأحجار معدة ومرقمة وهي تتجمع من خلال أربطة، وقيل إنه تم تركيب الهيكل في ولاية إنديانا الأميركية على سبيل التجربة خلال خمسة أيام وبعد فكه تم شحنه بالفعل إلى القدس. وفي السياق ذاته أسس أحد الخامات اليهود عام 1970 مدرسة باسم «Yeshiva Avodas Hakodish» لتعليم ممارسات وطقوس تقديم الذبائح المقدسة في الهيكل وهي تقبل فقط الشباب من سبط لاوي (رجال الدين في تاريخ إسرائيل القديم) والقادرين على أن يثبتوا انتسابهم إلى ذرية هارون، أول كاهن يهودي وهؤلاء فقط هم الذين يقبلون في المدرسة ويتم تدريبهم على ممارسة طقوس الذبائح، وقد تخرج إلى الآن 15 دفعة من هؤلاء الكهنة اليهود. وتردد في بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية كذلك أن الموسيقى اللازمة للعبادة في الهيكل قد أعيد صياغتها عام 1976، فقد نشرت جريدة «جيروزاليم بوست» في 3 شباط (فبراير) من العام نفسه مقالاً تحت عنوان «استعادة صورة الهيكل» وأكدت الجريدة أن عالمة الموسيقى الفرنسية هافك فينتورا أعلنت أنها حلت المشكلة المتعلقة بالعلامات الحركية المطبوعة في الكتاب المقدس العبري، مؤكدة أن العلامات الحركية هذه مكنتها من وضع وصياغة الألحان والنغمات التي كانت مستخدمة في خدمة الهيكل في أورشليم منذ 2000 سنة مضت. على أن الأكاذيب تفضح نفسها بنفسها ذلك أنه في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2004 أعلنت إسرائيل أن «الرمانة العاجية» وهي القطعة الأثرية الوحيدة الموجودة لديها من هيكل سليمان، مزورة، وذكر بيان لمتحف إسرائيل أن التحاليل المختبرية والأبحاث الميدانية أكدت أن الرمانة التي لا يتجاوز حجمها أصبع الإبهام تعود إلى العصر البرونزي وهو ما يعني أنها أقدم كثيراً من تاريخ ما تزعم إسرائيل أنه أول هيكل يهودي، فما هي النتيجة المتوقعة لما سبق؟ في ضوء ما تقدم صار من الواضح أن هناك احتمالين: الأول: هو توقع حدوث زلزال في هضبة الجامع الأقصى وهذا التوقع مصدره أن هناك ضعفاً شديداً في أساسات المسجد الأقصى، بسبب أعمال الحفريات التي تقوم بها إسرائيل ما يجعل أقل هزة أرضية تؤدي إلى سقوطه مع الكنائس الأخرى المجاورة، وقد أيد هذا الاحتمال أحد العلماء الأميركيين من جامعة ستانفورد الذي أعلن عن اكتشاف شرخ في القشرة الأرضية تحت جبل الزيتون مما يمكن أن يسبب حدوث زلازل في وسط الجبل عن قريب. الثاني: قيام اليهود بهدم المسجد من خلال هجوم مباشر وهو السيناريو الذي تكرر غير مرة وإن لم تصل تلك المحاولات إلى المرحلة النهائية، لكن إرهاصات الأيام الأخيرة تجعل من هذا السيناريو أمراً وارداً وبشدة. * كاتب مصري