قد تكون الصورة الثابتة التي تتبادر إلى الأذهان حول القراصنة، هي صورة البدائيّ الشرس، الموغل في قلب البحر، العارف بتضاريسه، وقد يتصوّرهم البعض أنّهم بعين واحدة أو رجل واحدة، بشعر وذقن طويلين. يختبئون خلف الأمواج العاتية، يركبونها ليقضوا على أعدائهم. ربّما كان الإعلام وراء تجذير هذه الصورة، سواء عبر أفلام الكرتون وشخصيّات كرتونيّة شهيرة، أو عبر أفلام القراصنة التي اشتهرت في السينما العالميّة، ك»قراصنة الكاريبي» وغيره من الأفلام، لكنّ هذه الصورة تتغيّر في الوقت الراهن. وفي حين ظننا أنّ مفهوم القرصنة القديم قد تطوّر وترقّى بحكم الثورة التكنولوجيّة، ليدخل طوراً جديداً، يعنى بالسطو على المعلومات والبيانات، ويدخل أعماق ودهاليز الشبكة العنكبوتيّة، ليقرصن ما يبحث عنه، ويحتجزه ليحقّق عن طريقه غاياته المتعدّدة، وقد يجعله وسيلة ابتزاز ضدّ القوى والهيئات التي تمّ السطو على خصوصيّاتها...، فإنّ هذا المفهوم المترقّي لم يكد يتعمّق حتّى أعيدت القرصنة الحقيقيّة إلى الواجهة، فكما انطلقت من البحر ولُبِّست الفكر، هاهي تعود إلى البحر مرّة أخرى، وفي لبوس لا يختلف كثيراً عمّا كان شائعاً، على أيدي الصوماليّين، الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس بقرصناتهم. فمنهم مَن يقرصن ومَن من يدعمه بتأمين دعم لوجستيٍّ له، خاصّة أنّ المردود المادّيّ قد يكون دسماً، في مناطق تفتقر الى أبسط قواعد الأمن والاستقرار. لا شكّ أنّ القرصنة تنتعش في ظلّ ظروف سياسيّة وأمنيّة تفتقد بوصلة التحكّم والقيادة. إذ توسّعت دائرة القرصنة البحريّة التي بدأت أخبارها تتقدّم ما عداها من أخبار وتسود معظم الفضائيّات وكثيراً من البرامج، ما حدا بالقوى الدوليّة العظمى الى البحث عن حلول ناجعة لها، بعد أن عقدت المؤتمرات والندوات وقُدِّمت الدراسات والمقترحات التي ترمي إلى الحدّ من القرصنة، وإلى تبديد القراصنة بشتّى السبل. كما يبدو أنّ القراصنة قد بدأوا بتصعيد عمليّاتهم، فبعدما كانت تقتصر على طلب الفدية مقابل إطلاق سراح الباخرة أو السفينة المحتجزة، صارت تستهدف طلب الثأر لما حلّ بالبعض منهم، أي أنّ غايتهم بدأت تشمل منحَيين، المال والثأر، وكون التخلّف هو السائد في المجتمعات التي تحترف وتقترف مثل هذه الأعمال، فقد يتمّ التخلّي عن المال للركض خلف الثأر الذي قد تكرَّس له كلّ الجهود! وكنّا قد سمعنا دعوات إلى محاربة الإرهاب، وها نحن نسمع دعوات إلى محاربة القرصنة، وبعدما احتدمت الصراعات على البرّ هاهي تعود إلى البحر، تختلف الصور قليلاً لكنّ تظهيرها يكاد لا يختلف. ماذا وراء القرصنة؟! هل يظلّ المال الدافع الوحيد لها؟! لماذا تتوسّع أعمالها يوماً بيومٍ رغم الإعلان عن إجراءات دوليّة صارمة للحدّ منها؟! كيف يتمّ تسييد القانون في بلد لا ثقافة قانونيّة فيه؟! هل القرصنة ردّ فعل على الممارسات السلبيّة للقوى العظمى التي لا ترى في العالم الثالث إلّا الموادّ الخام والسوق الاستهلاكيّة؟! ألن يتمّ تجيير القرصنة لتحقيق أهداف وغايات أخرى؟! وهل سيقتصر القراصنة على تحقيق أهدافهم أم أنّهم قد ينجرّون إلى السقوط في شرك قوى ومنظّمات وعصابات تسخّرهم لمصالحها؟! أسئلة أسئلة! * كاتب سوري.