كتبت هنا قبل أسبوعين (8 من الشهر الجاري)، تعليقا على التقرير الثاني الصادر عن الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية، وقد أبديت دهشتي وبهجتي من جرأة التقرير وإنصافه في الوقت ذاته. جرأة التقرير لا تحسب للجمعية أكثر مما تحسب للحكومة السعودية التي سمحت، في حين لا يسمح غيرها من الدول «الديموقراطية!»، بنشر مثل هذا التقرير الجريء. بينما يحسب إنصاف واتّزان التقرير للقائمين على الجمعية الذين لم ينجرفوا خلف رياح التقارير الحقوقية المعتادة، التي تقتلع الأخضر واليابس! الكتابة عن مثل هذا الموضوع الشائك تستجلب، من دون شك، ردود فعل أكثر من سواها. وهذا ما جرى حقاً من خلال البريد الإلكتروني والاتصالات التي تلقيتها خلال الأسبوع الماضي. المفارقة، أنه في حين كانت معظم ردود الفعل تبدي استغرابها من التجرؤ على الكتابة في مثل هذا الموضوع، بل وسمّاها بعض الأصدقاء المحبين تهوراً ومجازفة، لم تخل ردود الفعل من اتهام الكاتب، في المقابل، بالتملّق والنفاق! احترت قليلاً بين الاتهام بالتهور والاتهام بالتملّق، لكنني سريعاً ما استعدت توازني وتخلصت من حيرتي باستنباط الدليل الناصع بأنني أمسكت بعصا التوازن، أو هكذا أظن. لن أتطرق إلى الذين أثنوا على المقالة وإن وصفوني بالتهور، لكنني سأتوقف قليلاً عند الذي وصف المقالة بأنها دجل وكذب، وقال: (لقد قرأت الشطر الأول من مقالتك، وعند قراءتي للشطر الثاني قطعت المقال ولم أكمل...). هذا القارئ الثائر نسي وهو يقرأ عن حقوق الإنسان أن من أبسط حقوق الإنسان أن أعبّر عن رأيي الذي أؤمن به، وبالمثل أن يعبّر هو أيضاً عن رأيه الذي يؤمن به. هو لم يكمل قراءة مقالتي، بينما أكملت أنا قراءة تعليقه عبر الإيميل، وكان يمكن أن أعامله بالمثل. وقلت له: هل كان سيرضيك أن لا أكمل أنا أيضاً قراءة ردك علي وخصوصاً العبارة الأخيرة (التي لم أنشرها هنا)، مثلما امتنعت أنت عن إكمال قراءة مقالتي؟! ننسى كثيراً أن قراءة ما يخالف وجهات نظرنا وقناعاتنا أكثر نفعاً لنا من قراءة ما يشبهنا فقط. وأن قراءة الآراء المخالفة أو المغايرة لا تضرنا أو تهدد قناعاتنا الثابتة، لا المتحولة، إذا كانت تلك الثوابت قوية ومبنية على أسس متينة وقابلة للنقاش. لا يخاف من النقاش سوى ذوي الأفكار الآيلة الى السقوط. القراءة غريزة تشبه غريزة الأكل، لكنها مغايرة لها في انتقاء الطبق المفضل. فقراءة ما تشتهي لا تغذي عقلك، وأعني هنا القراءة النقدية لا القراءة الإبداعية، لأن المعلومة ذات الطعم المختلف هي التي تحفز إنزيمات العقل على العمل والتفكير. كل ما تشتهي.. واقرأ ما لا تشتهي! هذه ليست دعوة لتعمد المخالفة أو التحولات الدائمة بين يمين ويسار وفوق وتحت، من دون هدف سوى المغايرة والتميّز لذاتهما فقط! والمعارضة كمبدأ لا تعني دوام المعارضة ضد شخص أو مؤسسة محددة بذاتها، بل تعني في أفضل حالاتها معارضة الخطأ سواء جاء من داخل النسق الذي ينتمي إليه المعارض أو من خارجه. أما أن تكون المعارضة هي مجرد مصادمة كل إجراء فهذه ليست معارضة بل محاربة، والفرق شاسع بينهما. سأعيد هنا تساؤلا قلته في مقالتي: (متى ستصبح المعارضة في الوطن العربي جزءاً من الداخل، هدفها الإصلاح لا الاعتراض فحسب، وخطابها نقدي إيجابي، لا يتغاضى عن الأخطاء والقصور في الأداء، لكنه أيضاً لا يتغاضى عن الايجابيات والإنجازات. معارضة لا تنفي مخرجات الحكومة ولا الحكومة تنفيها إلى الخارج؟!). تأكدت الآن أن سؤالي هذا مشروع ومبرّر، وأن إجابته مأمولة ومنتظرة.. وأرجو أن لا تتأخّر كثيراً. * كاتب سعودي [email protected]