توقُّع «انهيار مفاجئ للجيش» النظامي السوري والقلق من «ملء الإسلاميين الفراغ»، كانا محرّك الاتصالات الدولية والإقليمية في اتجاهين: الأول، ضغط من إدارة الرئيس باراك أوباما، على دول إقليمية رئيسية لوقف الدعم العسكري للفصائل الإسلامية التي حققت انتصارات في الفترة الأخيرة، خصوصاً في إدلب شمال غربي البلاد. الثاني، تواصل واشنطن وغيرها مع موسكو للبحث في سيناريوات التغيير السياسي وتشكيل «حكومة شرعية» في سورية. محرّك الاتصالات ليس تسريع إسقاط النظام، بل القلق من سقوطه المفاجئ وانهيار الجيش. هذا القلق ليس «كلام جرائد» مبالغاً فيه على خلفية رفض تكرار النموذج العراقي. بل إنه قناعة أجهزة ومؤسسات استخباراتية في دول غربية كبرى. عقدت اجتماعات بين أجهزة أمنية وتنفيذية لتقويم المعلومات المتوافرة لديها من أن «الانهيار وارد في أي لحظة بناء على المعطيات المتوافرة»، خصوصاً أن بعض هذه المعلومات مبنيّ على «تنصّت على اتصالات هاتفية بين مسؤولين في النظام». أعرب بعض المسؤولين الأميركيين والأوروبيين في اجتماعات، عن التشكيك في صدقية هذا التقدير. يعتقد هؤلاء أن النظام وحلفاءه يسرّبون هذه المعطيات للتخفيف من الضغط عليه والتلويح بأن البديل سيكون «داعش»، سواء بإمكانية سيطرته على دمشق بعد تدمير «جيش الإسلام» في الغوطة الشرقية، أو اقتحامه حمص وسط البلاد وعزل شمال سورية عن جنوبها، وتقطيع أوصال «قوس النظام» من دمشق الى الساحل غرباً. لكن التعاطي الإجمالي مع إمكان سقوط النظام، بات أمراً ثابتاً في السياسات الكبرى لبحث سيناريوات التغيير المحتمل في سورية. معادلة التغيير هي المزاوجة بين محاربة الإرهاب وتشكيل حكومة شرعية في سورية. بدايةً، أوفد أوباما مسؤولاً أمنياً رفيع المستوى الى عواصم إقليمية، لإقناعها بضرورة التخفيف من الدعم العسكري والمالي للفصائل الإسلامية. كما أنه أوفد مسؤولاً عسكرياً الى أنقرة، للانقلاب على اتفاق أولي أُنجز بين تركيا ومسؤول عسكري آخر إزاء برنامج دعم المعارضة. خطوط حمر: ممنوع دخول المعارضة الى دمشق. «جيش الإسلام» بقيادة زهران علوش خط الدفاع الأول عن العاصمة. خط أحمر الذهاب الى الساحل السوري. خط احمر الدخول الى مدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية. في موازاة ذلك، يحصل تفاوض سياسي. اختبار الإمكانات. تفاوض شفوي لم ينتقل الى إنجاز مبادئ أو عقد صفقة. الأسلوب الجديد في التفاوض، هو المقاربة الافتراضية. مقاربة «ماذا لو» هي التي تدور بين موسكو وكلّ من واشنطنولندن ودول أوروبية وعربية وإقليمية. زار العاصمة الروسية، وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ومبعوثه السابق لشؤون سورية دانيال روبنستين. كما جرى اتصال هاتفي بين الرئيسين فلاديمير بوتين وباراك أوباما، وبين بوتين ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. كما عُقد اجتماع في لندن بين مستشاري الأمن القومي الروسي والبريطاني قبل أيام. نقطة الانطلاق هي: «ماذا لو سقط النظام الآن؟ الانطباع الأولي الذي يخرج منه محاورو الروس، أن الرئيس بوتين الذي انخرط شخصياً في الملف السوري عندما التقى وزير الخارجية وليد المعلم، «ليس مرتاحاً» لأسلوب تعاطي النظام مع أفكاره. لم يكن مرتاحاً لعدم استجابة الرئيس بشار الأسد للقيام ب «إجراءات بناء ثقة» قبل «منتدى موسكو-1»، ولا لكيفية تعاطي الوفد الحكومي برئاسة بشار الجعفري. وبوتين مدرك أيضاً، السياسة الممنهجة التي تقوم بها إيران في «تفكيك» الجيش وإنشاء «جيوش صغيرة» تابعة لها. وهو أيضاً، بات مدركاً لأهمية الحل السياسي في محاربة الإرهاب. الكرملين سمع كلام مسؤولين أميركيين حول «أن النظام انتهى، والموضوع يتعلّق بالوقت»، لكن في الوقت نفسه، لم تظهر الى الآن رغبة في «تغيير النظام من الخارج»، ولا في التخلّي عن دعم الجيش النظامي بالسلاح والعتاد. إذاً، على ماذا يتفاوض الروس والمسؤولون الغربيون؟ لا تزال الأمور في طور «التفاوض الشفوي» في مقاربة «ماذا لو». للمرة الأولى، بات المسؤولون الروس ينخرطون في هذه الأسئلة الافتراضية: «ماذا عن المحاسبة؟ محاسبة المسؤولين السوريين؟ ماذا عن أرصدتهم المالية؟ ماذا عن مكان إقامتهم بعد التغيير؟ ماذا عن دور العلويين في الحكم؟ ماذا عن مؤسستي الأمن والجيش؟ ما هي مدة المرحلة الانتقالية؟ في المقابل، يسأل مسؤولون غربيون الجانب الروسي: «في حال قبلنا ببقاء الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، هل يمكن تشكيل حكومة انتقالية؟ في حال وافقنا على تشكيل حلف ضد الإرهاب، هل يمكن تشكيل حكومة شرعية تشرف على الجيش وإعادة هيكلته وتكون الاتصالات الدولية والإقليمية معها؟ عندما نقول إن الأسد جزء من الحل، هل يعني أنه موجود خلال التفاوض على المرحلة الانتقالية أم خلال المرحلة الانتقالية بأكملها؟ ايضاً، عندما نقول إنه يمكن القبول بشخصية علوية عسكرية، هل يعني ذلك التخلّي عن آخرين؟ من هي الشخصيات العلوية المقبولة؟»، ويُطرح في هذا السياق عدد من الأسماء، بعضها من «الحرس القديم» أو أقاربهم. وقدّمت بعض الدول الغربية برامج تنفيذية، تتضمّن الاستعداد لإرسال خبراء عسكريين الى سورية، لتدريب «الجيش الوطني» بعد تشكيل «حكومة شرعية». كما أنها قدمت مشاريع لإعادة الإعمار و «حزمة من المشاريع». هنا، اختلف تحليل الدول إزاء «مدة بقاء النظام». بعضها يرى أن «النظام لا يمكن أن يستمر من دون انهيار لأكثر من ستة أشهر أو سنة»، فيما رأى زعيم عربي أن النظام يمكن أن يستمرّ لسنتين. لكن الخوف مشترك من «انهيار مفاجئ». وتأتي أهمية التقرير الذي سيرفعه المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قريباً، من الرهان على أن يطرح الأخير التقرير على مجلس الأمن، ويحصل على الدعم السياسي الدولي ل «خريطة الطريق» التي سيقدّمها دي ميستورا، لتشكيل الحكومة الانتقالية وتفسيره ل «بيان جنيف -1». لكن الأهم، أن يكون قبل ذلك أنجز التفاهم بين الدول الكبرى بعد اتصالات بوتين وأوباما، وبعد لقاء بوتين وكاميرون في أيلول (سبتمبر) المقبل، بحيث يكون اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول، مناسبة لإعادة إطلاق زخم العملية السياسية. الرهان أن يؤدي هذا الى استئناف المفاوضات في «جنيف - 3». مبعث الرهان، أن يجمع القلق من تصاعد أخطار «داعش» وقرب موعد توسيع غارات التحالف قبل نهاية العام، الفرقاء الإقليميين المتخاصمين. وأن يفتح الاتفاق النووي النهائي صفحة في إمكانية عقد تفاهم سياسي. الى الآن، هناك فصل كامل في عقل أوباما بين ملفات المنطقة: الملف النووي، محاربة «داعش»، الملف السوري، ملف اليمن. والرهان، أن يتغير الأمر بعد الاتفاق النووي. هناك قلق أردني متزايد من نفوذ «داعش»، واقترابه من حدود الأردن والخليج. هذا قلق إسرائيلي أيضاً. الجانب الأردني يريد الضغط دعماً لمشروعه إقامة منطقة آمنة جنوب سورية، بعمق عشرين كيلومتراً يحميها مقاتلو المعارضة، و «إنذار» ينقل الى النظام بعدم الاقتراب من المنطقة. وهناك قلق تركي من تصاعد نفوذ «الاتحاد الديموقراطي الكردي»، حليف «حزب العمال الكردستاني»، شمال سورية على طول الحدود التركية. لذلك، فإن القيادة التركية وضعت سيناريوات لمنطقة آمنة بعمق 33 كيلومتراً في بعض المناطق. ودخلت في مفاوضات تتعلّق بالاستعداد لوقف دعم الفصائل الإسلامية، مقابل تقديم دعم جوي من التحالف للفصائل المعتدلة في حربها ضد «داعش». ينطبق الأمر أيضاً، على إيران التي باتت تدافع عن إقليمها في سورية بين دمشق وطرطوس. وأمام قناعة النظام باستحالة الانتصار الكامل، فإنه بات أكثر استعداداً لصفقات صغيرة تتعلّق بالبقاء في مناطقه، وإعطاء صلاحيات أكبر للقادة المحليين. * كاتب سوري من أسرة «الحياة»