لم تعد الاحتفالات ب «القرقيعان»، التي تصادف منتصف رمضان المبارك، حكراً على الأطفال، بعد أن أقامت قرى في الأحساء «كرنفالاً شعبياً»، من خلال بوابات شيدها وأعدها متطوعون. وأسهم سكان القرى من خلال تبرعاتهم المادية والعينية في تمويلها، حتى باتت مناسبة لاستقبال العائلات من مدن وقرى الأحساء الذين باتوا يجوبون القرى، بحثاً عن «القرقيعان». لم تسرق هذه الفعاليات الجديدة التي بدأت قبل أقل من عقد، البساط من تحت الاحتفال التقليدي ب «القرقيعان»، فلا يزال الأطفال يجوبون المنازل على شكل مجموعات صغيرة، يطرقون الأبواب وهم يرددون أغاني وأهازيج شعبية، يطلبون الحلوى والهدايا. وفي بعض القرى يجتمع جميع أطفال القرية ضمن مسيرة كبيرة، تسير خلف المسحر (المسحراتي)، وهو يقرع طبلته ويردد ذكر الله والصلاة على النبي، ضمن أهازيج معروفة في هذه المناسبة. وباتت الطريقة الجديدة للاحتفال ب «القرقيعان»، التي تبنتها قرى الأحساء من خلال شباب متطوعين، فرصة كبيرة لتعريف الزائرين لها من العائلات بهذه القرى الضاربة في القدم والعراقة. وقال حسين صالح الجعفر: «هذه الطريقة الجديدة جعلتنا نوسع من مفهوم الاحتفال الذي كان مقتصراً على القرية الصغيرة، ليتعداه ويصبح بحجم خريطة الأحساء»، مضيفاً: «نستغل هذه الفرصة لنكون مع العائلة، نتنقل من قرية لأخرى، ونتلقى كرم عطاياها، حتى بتنا نضيق لكثرة ما نحصل عليه من هدايا وحلويات». وتشهد الاحتفالات الكبرى ل «القرقيعان» في قرى الأحساء تطوراً تصاعدياً، فمن مجرد توزيع الحلوى في الشوارع الرئيسة والعامة، إلى خلق نوع من الحراك التراث والثقافي وحتى الفني، ففي قرى تقام ضمن ديكورات البوابات بازارات، تعرض حرفاً يدوية شعبية، إلى جانب معارض التصوير الفوتوغرافي، وصولاً إلى أركان توعوية طبية. وتركز المهرجانات التي أصبحت منتظرة من عام إلى آخر على «غرس مفهوم المواطنة الصالحة»، بحسب عبدالله الهديبي. وقال: «إن معظم الاحتفالات في القرى، ومنذ انطلاقتها قبل أعوام تركز على هدف التأكيد على حب الوطن، فتجد الأعلام واللافتات المنتشرة على جنبات الطريق، التي تؤكد على حب الوطن ونبذ الطائفية والتطرف والعنف». وأضاف الهديبي: «حين ننتقل من قرية إلى أخرى مجاورة، نجد أن التراث حاضراً بقوة، إلى جانب السعادة والفرح الذي تخلقه هذه الأجواء. ويبدأ العمل في إعداد هذه البوابات قبل أسبوع من موعد «القرقيعان»، ويتم بتكاتف أبناء القرى من خلال إيصال الهدايا والحلويات، وحتى الإسهام بالأموال من أجل ما بات يعرف بإكرام ضيوف القرية. ولم تعد المشاركة حكراً على أبناء القرية فقط، بل تعداه لأن يكون محط اهتمام ومشاركة أبناء الأحساء وضيوفها، الذين يحرصون على الاستمتاع بهذه الأجواء الجميلة». وقال هارون العلي، وهو أحد المشاركين في إعداد بوابات «القرقيعان»: «أدخلت الكثير من التحسينات والتطويرات على البوابات، فوجدنا أن قرى تعمدت وضع أركان جديدة مثل التصوير الفوتوغرافي والركن الطبي التوعوي، إلى جانب ركن المسابقات والرسم على الوجوه، وهو ما لم نشهده في احتفالاتنا من قبل»، مضيفاً: «الغريب في الأمر أن في القرية الواحدة تجد أكثر من بوابة يتبناها متطوعون يعملون ضمن مجموعات، وهو ما يجعل الاحتفال أكبر وذا تأثير تنافسي جميل». ويعد الاحتفال ب «القرقيعان» من المهرجانات الموسمية التي تلاقي اهتماماً كبيراً من سكان دول الخليج وبعض الدول العربية، مثل الشام والعراق. وهذا الكرنفال الشعبي، الذي يقوده الأطفال يعد من أبرز العادات الشعبية الرمضانية في المنطقة، وقبل البدء فيه وفي كل عام يحدث جدلاً دينياً واسعاً بين محرم ومحلل وبين من يشترط تحليله وإباحته. ويستند المحرمون إلى القول بأنه «بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، وأنه «لم يعمل به في عهد الرسول أو الصحابة». وبينما يرى محللون أنه «من العادات الشعبية الحسنة التي لا تدخل في الدين وممارساته، وإنما هي مجرد استحضار للمورث الشعبي الذي لا يتصادم مع أي شيء محرم، ويسهم في إبقاء الاتصال بالماضي وتعريف الأجيال به». وتلعب الأزياء المصاحبة لهذه الاحتفالية دوراً بارزاً في إبقائها على قيد الحياة. وشهدت احتفالية هذا العام الرجوع القوي لفستان «القرقيعان»، المعروف محلياً ب»الدراعة»، التي تحمل ألواناً متعددة وتكون على شكل قطعة واحدة طويلة. بينما أدخلت مصممات «السديري» لإضفاء شيء من الحداثة عليها. إلا أن الثوب التقليدي لا يزال الأكثر طلباً، ولا يتم الاحتفال إلا به إلى جانب «البخنق» وهو ما تضعه النساء على رأسها، ويكون مطرزاً بخيوط ذهبية. ويكتفي الأولاد بارتداء الثوب الأبيض والطاقية (الكوفية) المذهبة أو البيضاء، ويعلقون حول أعناقهم أكياساً قماشية، يجمعون فيها ما يحصلون عليه من المنازل التي يطرقون أبوابها. وجرت العادة أن يشكل الأطفال فيما بينهم مجموعات صغيرة، وعادة ما يكونوا أقارب. ويتنقلون من منزل لآخر، ومن حي لآخر. إلا أن قرى في الأحساء، لها طقوس خاصة لم تتغير من زمن بعيد، إذ يبدأ «القرقيعان» فيها من ساعات الظهر الأولى، ويجتمع الأطفال في الساحة الكبيرة للقرية، في انتظار قائد المسيرة وهو «المسحراتي»، لتبدأ الرحلة مع أول قرعة للطبلة الكبيرة التي يحملها، وهم يرددون خلفه الأهازيج الشعبية المعروفة، ويمكن أن يجتمع خلفه أكثر من 200 طفل وطفلة من دون مرافقين. وفي المقابل يقف أصحاب المنازل فوق حافة سطوحهم، أو على الأبواب ليقذفوا أكياس «القرقيعان». بينما يستغل الجيران فترة انتظار قدوم المسيرة في استحضار قصص ومغامرات الماضي المتصلة بهذه المناسبة، لينتهي عمل أصحاب المنازل في الوقت الذي يفرغون فيه محتوى سلالهم فوق رؤوس الأطفال، وتنتهي مسيرة الأطفال بالمرور في آخر منزل في القرية، ليتفرقوا ويفرزوا ما قاموا بجمعه بسعادة غامرة. وجرت العادة أن يكون «القرقيعان» المقدم باسم آخر مواليد الأسرة، وهذا ما دفع كثيرين لابتكار طرق عصرية تزاحم التراثية البسيطة، بدءاًً بتصوير الطفل في الأستوديو بطريقة مميزة، ووضع صوره التي تحمل عبارات التهاني والتبريكات داخل علب مبتكرة. وشاركت برامج التواصل الاجتماعي في هذه المناسبة من خلال تبادل الأفكار والتهاني وحتى الهدايا، في محاولة لإقحام أدوات العصر الحالي في أكثر العادات الشعبية تمسكاً بالتراث. وتمثل جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمعات الخليجية، والتي تستحضر في مثل هذا الوقت من كل عام.