بعد خمس سنوات على صدور روايته «مقبرة براغ»، التي تغوص في مؤامرات أجهزة الاستخبارات الإيطالية والفرنسية والروسية في نهاية القرن التاسع عشر، وتفكّك أسطورة كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، يطلّ الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو برواية جديدة، «العدد صفر»، صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «غراسيه»، وتقع أحداثها في مدينة ميلانو، في مطلع تسعينات القرن الماضي، أي في قلب مرحلة الفضائح والفساد من عهد سيليفيو برلوسكوني. الرواية مكتوبة على شكل دفتر يوميات يروي فيه صحافي خمسيني يدعى كولونا اتفاقاً سرّياً بينه وبين ناشر إعلامي معدوم الأخلاق يدعى سيميي من أجل إطلاق سلسلة أعداد صفر من صحيفة لن ترى النور ولا غاية لها سوى تسهيل دخول مموّلها، فيميركاتي، إلى دوائر السلطة، عبر ممارسة ضغوط على رجال السياسة والأعمال والإعلام. ويشمل الاتفاق كتابة كولونا، مقابل مبلغ من المال، كتابٍاً لا يمتّ إلى الواقع بصلة، ويتضمن تفاصيل مغامرة سيميي «البطولية» و»إنجازاته» في الجريدة. كتاب من المفترض أن يوقّعه الأخير وأن يصدر بعد إغلاق الجريدة. غير أنّ ما يعتقده فريق الصحافيين الذي يجمعه سيميي وكولونا حولهما الخطوة الأولى على طريق نهضة أخلاقية للصحافة المستقلة، المحرّرة من أي ارتباط مشبوه أو ضغط، هو في الواقع كمين لن يلبث أن ينكشف لهم تدريجاً خلال اجتماعات التحرير التي تتوالى وتحتل حيّزاً مهماً من الرواية. اجتماعات تشكّل فرصة لإيكو كي يحلّل طريقة عمل صحف عديدة اليوم، كاشفاً لمَن لا يزال جاهلاً كيف يتم توجيه رأي قارئها من خلال التلاعب بعناوين مقالاتها وطريقة تقديم مضمونها، وكيف تُخلق وتُسيَّر الإشاعات أو الشكوك فيها، وكيف تُشوَّه سمعة قاضٍ متطفّل أو شخصٍ مزعج، وكل ذلك بكلبية باردة. باختصار، يصف إيكو، واحداً تلو الآخر، الأمراض التي تعاني منها الصحافة الإيطالية (وغير الإيطالية طبعاً) وأدّت توالياً إلى فقدان العمل الصحافي صدقيته، وإلى تحوّل الصحف إلى ركائز للدعاية والتأثير يمسك بها رجال السياسة والأعمال والمافيا، الذين تربطهم غالباً علاقة وثيقة. وفي نقده اللاذع هذا، يستعين صاحب «اسم الوردة» بنبرة لا تخلو من الطرافة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالصحافي براغادوتشيو الذي يحقق في قضية اختفاء موسوليني وينكر الرواية الرسمية حول وفاته، لاقتناعه بأن ال «دوتشي» أفلت من الموت بفضل قرين له، قبل أن يهرّبه الفاتيكان إلى الأرجنتين. ومن خلال هذه الشخصية التي تعاني جنون الشك وسلوكاً هستيرياً، نقرأ أيضاً نقداً لنظريات المؤامرة التي انتشرت أخيراً بقوة عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. نقدٌ يلطّفه إيكو في نهاية الرواية مع استحضار ملف «غلاديو» (تنظيم شبه عسكري نشط خلال السبعينات والثمانينات وانخرط في صفوفه رجال استخبارات وماسونيون وناشطون سياسيون) الذي يتجلى عبره أن أولئك الذين يصوغون النظريات المؤامراتية يضعون الإصبع غالباً على وقائع وحقائق لا تبدو «عبثية وهذيانية» إلا حين لا تؤيدها وتثبتها وسائل الإعلام الرسمية الكبرى. ولكن لا قيمة للحقيقة اليوم، وفق إيكو، بما أن الجمهور لم يعد يكترث لما يُكشف يومياً من فضائح لكونه اعتادها وسئم جنايات حكّامه وفسادهم، وبالتالي أصبح كل ما يهمّه هو حياته الشخصية اليومية الضيّقة وكم سيدفع من ضرائب وكيف سيمضي عطلاته: «لم يعد هنالك أي تفرقة بين الأبيض والأسود، نحن في مرحلة لا يرى الناس فيها أي فائدة في الإصلاح. يحصل الاتجار غير المشروع علناً، كما لو أن رسامين انطباعيين يرسمونه. الفساد أضحى حلالاً، رجال المافيا في البرلمان، المتهرّبون من الضرائب في الحكومة، ولا يقبع في السجن سوى سارقي الدجاج والألبان»، يستنتج البطل المضاد في نهاية الرواية، كولونا، الذي لن يرى أي ضرورة للهرب والتواري عن الأنظار، بعد اغتيال براغادوتشيو، أن واقع الحال هذا لم يبق حصراً بالعالم الثالث، بل أضحى متفشياً في أنحاء المعمورة. مثل كل روايات إيكو، تتحلى رواية «العدد صفر» بمستويات قراءة عدة. فإلى كونها رواية تشويق، يمكننا قراءتها كنصّ يسلّط الضوء على مرحلة سوداء من تاريخ إيطاليا الحديث، كما أنها من دون شك نصٌّ لاذع ضد الإعلام، والصحافة المكتوبة خصوصاً، يعكس مأساة زمننا المضحكة. فمن خلال قصة حفنة من الصحافيين المستعدّين لكل التنازلات من أجل كسب قليل من المال والشهرة، يفكك إيكو ببراعة وطرافة انحراف مهنة الصحافة عن مهمتها الرئيسة وقيمها، والممارسات المشينة لرجالها وروابطهم المشبوهة بالسلطة. ومع ذلك، تبقى هذه الرواية ضعيفة، مقارنةً بروايات إيكو التي سبقتها، وكأنه كتبها على عجلة. فإلى جانب (أو ربما بسبب) قصرها (أقل من 200 صفحة)، تعاني حبكتها وفعل رسم شخصياتها هزالاً لم نعتده في نصوص صاحب «بندول فوكو»، الطويلة عادةً، والمثيرة في ارتدادات أحداثها واستطراداتها الكثيرة وغنى شخصياتها.