فيما تستمر معاناة الصحف البريطانية جراء تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي أدت إلى تراجع كبير في عائدات الإعلانات وإلى انكماش أكبر في المبيعات، شهدت صحيفة «دايلي تليغراف»، أوسع الصحف اليومية الرصينة انتشاراً، سلسلة «ترقيات» في قمة هرمها عكست توجهاً نحو التركيز على الصحافة الإلكترونية، إضافة إلى محاولة وقف سلسلة التراجعات في مبيعات الصحيفة الورقية. أعلنت «دايلي تليغراف» في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تعيين توني غالاغر (45 سنة) مديراً جديداً لها، في خطوة تعني عملياً مكافأته نتيجة الدور الذي لعبه في نجاح هذه الصحيفة اليمينية التي يملكها الأخوان باركلي، عندما حققت سبقاً صحافياً بنشرها فضيحة «فواتير النواب» البريطانيين في أيار (مايو) الماضي. وكان غالاغر أحد أبرز المشرفين على تركيز كل جهود محرري الصحيفة على جمع كل شاردة وواردة عن النواب والفواتير التي قدموها إلى البرلمان لاسترجاع قيمتها على نفقة دافعي الضرائب. واستمرت الصحيفة (التي تحتفل هذا العام ب 155 سنة على صدورها) في نشر تفاصيل هذه الفضيحة طوال أسابيع، ويُعتقد أنها حققت أرباحاً لأصحاب «التليغراف» تُقدّر بما لا يقل عن ستة ملايين جنيه استرليني، مع ارتفاع ملحوظ في المبيعات بنحو 50 ألف نسخة (زادت نسبة المبيعات 2.9 في المئة في أيار/مايو)، ليصل توزيع الصحيفة إلى نحو 760 ألف نسخة يومياً. ودفعت «التليغراف» أكثر من مئة ألف جنيه استرليني بقليل لقاء الحصول على فواتير النواب من مصدر استطاع تسريبها وعرضها على وسائل الإعلام. ويحل غالاغر في منصب المدير محل ويل لويس الذي كان يشغل أيضاً منصب رئيس التحرير. وسيبقى لويس في منصب رئيس تحرير «التليغراف» وشقيقتها الأسبوعية «صنداي تليغراف»، لكنه سيكون مكلّفاً الإشراف على العدد «الديجيتال» للصحيفة على شبكة الإنترنت. وكان لافتاً أن لويس لن يكون مقره في المبنى الرئيسي للصحيفة في ضاحية فيكتوريا، بل سيشرف على الصحيفة الإلكترونية ومحرريها البالغ عددهم 50 صحافياً من ضاحية يوستن. وعلى رغم أن الضاحيتين تقعان في لندن، إلا أن موقع رئيس التحرير سيكون بعيداً من المبنى الذي يضم جسم الصحيفة الأساسي (فيكتوريا)، ما يعني بالتأكيد أن غالاغر سيأخذ دوراً أكبر في الإشراف على إدارة العمل وتوجيه الصحافيين. ويوصف غالاغر بأنه من الصحافيين الذين يعملون بلا كلل، وهو بدأ عمله الصحافي في وكالة أنباء محلية في مدينة بريستول، قبل أن ينتقل إلى «دايلي ميل» في لندن، ومنها التحق ب «التليغراف» في العام 2006، ليتولى منصب رئيس قسم الأخبار، قبل أن يُعيّن نائباً لمدير الصحيفة في 2007. وخلال غياب رئيس التحرير، (لويس) عن الصحيفة هذه السنة لتحضير شهادة في الإدارة من جامعة هارفرد الأميركية، لعب غالاغر دوراً أساسياً في الإشراف على إدارة العمل في غيابه. وغالاغر واحد من مجموعة أساسية من صحافيي «التليغراف» الذين لم «يتخرّجوا» في أروقتها، بل تم «استيرادهم» من صحيفة «الدايلي ميل» المنافسة. فإضافة إليه، يتولى زميله السابق في «الميل» إيان ماكراغور منصب مدير تحرير صحيفة «صنداي تليغراف» وكريس ايفانز منصب رئيس الأخبار في «دايلي تليغراف». وثمة من يقول إن غالاغر قد يواجه صعوبة في منصبه الجديد، إذ أنه يميني التوجه فعلاً، لكنه ليس محافظاً وليس داعماً بلا حدود للمؤسسات المرتبطة بفكر المحافظين (مثل الملكية والكنيسة)، كما أنه قد يصطدم ببعض الكتّاب المعروفين بأنهم من أشد المحافظين في الصحيفة. وسيكون غالاغر مدير التحرير الرقم 14 في «التليغراف» منذ العام 1855. وستواجه غالاغر مهمة أساسية هي طريقة إعادة استرجاع الشريحة من القراء التي خسرتها «التليغراف» طوال السنوات الماضية، إذ أن توزيعها حالياً يبلغ 760 ألف نسخة بعدما كانت توزّع 1.4 مليون نسخة عام 1969، وهو العام الذي وُلد فيه رئيس تحريرها الحالي ويل لويس. ولجأت الصحيفة في الصيف الماضي إلى طريقة مبتكرة في جلب القراء، إذ راحت توزّع زجاجة ماء مع كل صحيفة تُباع، ما ساهم ربما في خفض سرعة تراجع مبيعاتها. لكن مما لا شك فيه أن مشكلة انخفاض المبيعات لا تعاني منها «التليغراف» فحسب، بل باتت المشكلة المزمنة لسائر المطبوعات في السوق البريطانية. وكانت صحيفة «الإيفنينغ ستاندرد» (لندنية) أول الصحف العريقة التي تأثرت بهذه الأزمة، إذ أنها بعد سنوات من الكفاح للبقاء على قيد الحياة اضطُر أصحابها إلى بيعها في مطلع العام الماضي بسعر رمزي (جنيه استرليني واحد) إلى الجاسوس الروسي السابق الكسندر ليبيديف لقاء وعد منه بالحفاظ عليها على رغم ديونها المتراكمة. لكن ليبيديف لم يستطع وقف انهيار المبيعات، فلجأ إلى توزيعها مجاناً - للمرة الأولى في 180 سنة من تاريخ الصحيفة - ومضاعفة زيادة أعدادها إلى 600 ألف نُسخة توضع على أبواب محطات القطارات في لندن ولدى بعض باعة الصحف الذين وافقوا على تقديمها بالمجّان إلى القراء. وعلى صعيد الصحف الرصينة، كانت صحيفة «الإندبندنت» الأكثر تعرّضاً لتداعيات أزمة وسائل الإعلام، إذ تراجع توزيعها في مطلع الصيف الماضي بنسبة 15 في المئة مقارنة بالعام 2008، إذ لم تعد الصحيفة توزّع أكثر من 200 ألف نسخة يومياً. وما يزيد وطأة هذا الرقم أنه يتضمن 45 ألف نسخة وُزّعت خارج بريطانيا، في حين أن مبيع الصحيفة بسعرها الكامل (جنيه استرليني واحد) لم يشكّل سوى 55 في المئة من نسبة الأعداد المباعة، فيما كانت البقية بأسعار مخفّضة. ولجأت «الإندبندنت» إلى محاولة استرجاع نسبة من خسائرها، فعرضت على القراء الجدد الذين يودون قراءتها شراء أعدادها في أيام الأسبوع كلها بما فيها يوم الأحد بسعر رمزي قدره جنيه واحد (للأعداد السبعة) طوال فترة تجريبية تدوم شهراً، وإذا شاء القارئ الاستمرار في اشتراكه يمكنه شراء الصحيفة بسعر رمزي أيضاً لبقية أيام الأسبوع أو لبعض الأيام فقط. لكن مشكلة «الإندبندنت» الأساسية لا تنحصر على ما يبدو في انخفاض مبيعاتها، بل في تحوّلها في نظر كثيرين إلى صحيفة رأي أكثر مما هي صحيفة خبر. إذ باتت منذ سنوات تكرّس صفحتها الأولى لموضوع واحد فقط، غالباً ما يكون على شكل صورة أو عنوان مع كلمات قليلة، فيما تكون تفاصيل الموضوع في الصفحات الداخلية. وهذه الصيغة تُرغم الصحيفة على أن تنفرد بخبر واحد (أو رأي، أو حملة) على صفحتها الأولى، ما يعني أن القارئ لن يشتري الصحيفة على الأرجح إذا لم يكن مهتماً بالموضوع الوحيد الذي يتصدر الغلاف. ومثل «الإندبندنت»، تعاني «الغارديان» أيضاً حالياً تراجعاً قدره 9.7 في المئة مقارنة بتوزيعها العام 2008، إذ باتت توزّع نحو 314 ألف نسخة يومياً. وتُباع هذه الصحيفة اليسارية بجنيه واحد، مثل «الإندبندنت» (وسط، تميل إلى اليسار أيضاً). أما «التايمز» اليمينية التي تبيع النسخة ب 90 بنساً فقط، فتراجعت بدورها 10 في المئة، ليصير توزيعها 570 ألف نسخة يومياً. وبدورها تراجعت شقيقة «التايمز» الأسبوعية «صنداي تايمز» بنسبة 1.2 في المئة، ليصير توزيعها أقل من 1.2 مليون نسخة يوم الأحد، لكنها تبقى على رغم ذلك أكثر الصحف الأسبوعية الرصينة توزيعاً. وكانت صحيفة «دايلي ميل»، الصادرة في شكل «تابلويد» عن مؤسسة «أسوشيتد نيوزبيبرز»، الأشد مقاومة للتراجع بين الصحف البريطانية، إذ لم تتراجع سوى 0.7 في المئة مقارنة بالعام 2008، بحيث بلغ توزيعها في تشرين الثاني 2.148 مليون نسخة. وعلى رغم هذا التراجع الطفيف، أعلنت «الميل» الشهر الماضي تحقيق ثاني أكبر أرباح في تاريخها على رغم الركود الاقتصادي. وعلى رغم أن صحيفة «دايلي ستار» (يملكها ريتشارد دزموند) تراجعت تراجعاً طفيفاً في مبيعاتها الشهر الماضي، إلا أن توزيعها ارتفع إلى 823 ألف نسخة يومياً، ما يعني ارتفاعاً بلغت نسبته 15.3 في المئة مقارنة بالعام 2008. كذلك نجحت صحيفة «دايلي إكسبرس» في زيادة نسبة توزيعها إلى 685 ألف نسخة، بعدما خفّضت سعر النسخة إلى 20 بنساً فقط. ولا تنحصر مشكلة انخفاض المبيعات بالصحف الرصينة، إذ أن الصحف الشعبية الواسعة الانتشار تعاني بدورها من تراجع أكبر في نسبة مبيعاتها. إذ سجّلت صحيفتا «صن» و «نيوز أوف ذا وورلد» (أسبوعية تصدر يوم الأحد) تراجعاً إلى ما دون ثلاثة ملايين نسخة يومياً في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وأفادت أرقام مكتب مراقبة توزيع الصحف في بريطانيا بأن يومية «صن»، الصادرة عن مؤسسة «نيوز انترناشيونال» التي يملكها روبرت ميردوخ (مالك «التايمز» أيضاً)، شهدت تراجعاً قدره 2.87 في المئة في توزيعها مقارنة ب 2008، بحيث لم توزّع سوى مليونين و958 ألف نسخة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2009. أما شقيقتها «نيوز أوف ذا وورلد» فتراجعت بدورها 7.3 في المئة مقارنة بالعام 2008، وبلغ توزيعها 2.923 مليون نسخة في تشرين الثاني. أما صحيفة «ميرور» الشعبية (الصادرة عن مؤسسة «ترينيتي ميرور») فشهدت تراجعاً بلغ 10 في المئة في نسبة مبيعاتها مقارنة بالعام 2008، بحيث بلغ توزيعها 1.260 مليون نسخة يومياً في تشرين الثاني.