«مغامرات هكلبِيري فَن»، هي درة مارك توين، المؤسس لحداثة الرواية الأميركية، وإحدى الدرر الباهرة للرواية العالمية، رواية تُدخل- إلى الأدب الأميركي للمرة الأولى- المهمشين من الزنوج والفلاحين والمهاجرين، لتعري البؤس الذي يخيم على هذا العالم، بعيداً من تقاليد الأدب الأوروبي السائدة آنذاك. وصدرت حديثاً الترجمة العربية الكاملة للرواية، والدقيقة، بلا حذف، لتتجلى خلالها السمات الأسلوبية الفريدة لمبدع فريد، وذلك عن سلسلة «آفاق عالمية»، الصادرة عن هيئة قصور الثقافة/ القاهرة، بترجمة نصر عبدالرحمن. تبدأ أحداث الرواية في سانت بيترسبيرغ ميسوري على ضفاف نهر المسيسبي، وكان الصبيان توم سوير الذي كان بطلاً لرواية سابقة لمارك توين اسمها «مغامرات توم سوير»، وهكلبيري فن جمعا مبلغاً جيداً من المال من مغامراتهما السابقة وكان هكلبيري تحت رعاية السيدة دوغلاس التي كانت تسعى جاهدة مع أختها الآنسة واتسون إلى أن تغير من طباعه وتجعله أكثر تحضراً وأرقى طبيعة. وكان هاك او هكلبيري يقدر جهودهما، ولكنه كان يرى في ذلك تقييداً لا يرغب فيه. ويظهر توم سوير في بداية القصة ليساعد هاك على الهرب من المنزل، ويجتمع الصبيان مع المجموعة التي كان يلتقي معهم توم سوير، والذين كانوا يخططون لبعض الجرائم في مغامراتهم. وتنقلب حياة هاك رأساً على عقب عند الظهور المفاجئ لأبيه الكسول وعديم الحيلة «باب»، وكان رجلاً فظيع الأخلاق دائم السُكر. وعلى رغم نجاح هاك في منع أبيه من الحصول على ما كسبه من مال، إلا أن «باب» يأخذ هاك ليكون تحت رعايته وينتقل به إلى ناحية من الغابة حيث يغلق عليه الكوخ ويسجنه فيه. لكن هاك يهرب من الكوخ ويتوجه نحو نهر المسيسبي. يلتقي هاك الخادم جيم الذي كان يعمل لدى الآنسة واتسون في جزيرة جاكسون، ويخبره بأنه هرب من عندها بعد أن سمع أنها ستبيعه لعائلة قرب نهاية النهر حيث أوضاع العبيد هنالك أسوأ بكثير. ومعرفة هاك الكثير عن حياة جيم وماضيه ساعدت في تغيير بعض الأفكار التي كان يعتقدها حول الناس والرق والحياة بمجملها، ويستمر هذا التغيير خلال الرواية بأكملها. ويلجأ هاك وجيم إلى مغارة على أحدى التلال في جزيرة جاكسون للاختباء من عاصفة قوية، وكانا يذهبان نحو النهر كلما تمكنا لإحضار بعض الطعام والحطب وغيرها من المواد التي قد يحتاجون إليها. وفي إحدى الليالي يعثرون على طوف خشبي فيأخذونه ويستخدمونه لاحقاً للسفر عبر نهر المسيسبي. وبعد ذلك يجدون بيتاً عائماً على النهر، فيدخلانه ليأخذوا ما أمكنهم منه، ولكن حين دخل جيم إحدى الغرف رأى والد هاك ميتاً وعلى ظهره أثر رصاصة أصيب بها وهو يحاول على ما يبدو أن يسرق البيت. ما يفعله جيم في هذه اللحظة هو منع هاك من النظر إلى وجه الرجل حتى لا يعرفه. يضل هاك وجيم وجهتهما نحو إلينوي ويغرق الطوف عند مرور باخرة، فينفصل الاثنان عن بعضهما ويأوي هاك إلى عائلة جرانجرفورد وهي من العائلات الثرية ويكوِّن علاقة مع باك جرانجرفورد وهو صبي في مثل عمره. يكون هنالك عداوة وثأر بين هذه العائلة وعائلة أخرى وهي عائلة شيبردسون. ويبلغ الصراع الدموي ذروته حين تهرب أخت باك مع أحد أفراد عائلة شيبردسون ويتسبب النزاع في مقتل الرجال والصبيان في عائلة جرانجرفورد ومن بينهم باك. تأثر هاك بذلك تأثراً عميقاً، ويصف كيف نجا من القتل المحتم. يجتمع هاك بعد ذلك مع جيم ويذهبان نحو الجنوب على نهر المسيسبي. تتطور أحداث الرواية بعد ذلك في شكل متسارع، حيث يباع هاك في سوق الرقيق، ثم تأتي العمة بولي وتكشف عن هوية هاك وتوم الحقيقية، ويعرف توم أن جيم كان طليقاً لأشهر عدة وأن السيدة واتسون قبل وفاتها أعتقته. ثم أخبر جيم هاك بموت والده وأنه يمكنه أن يعود للعيش في بيترسبيرغ من دون مشاكل. وفي النهاية يفصح لهاك عن سعادته بأنه قد أكمل كتابة حكايته وعلى رغم محاولات عائلة توم أن تتبناه وتحضره إلا أنه كان عازماً على الذهاب غرباً نحو المناطق الهندية. يظهر في الرواية حالة الصراع الأخلاقي الذي يعيشه هاك بين القيم والمسلمات في المجتمع الذي يعيش فيه، فضميره لم يكن قادراً في البداية على دحض هذه القيم والتي بقيت حاضرة في ذهنه، إلا أنه في النهاية يقدم على خيار أخلاقي بناء على العلاقة التي تربطه مع جيم كصديق وإدراك قيمته كإنسان، مع أن مثل هذه القرارات لا تتوافق مع الأمور التي تعلمها منذ صغره. جاءت الرواية تجسيداً للبحث عن الحرية بكل معانيها، إذ كتبت بعد فترة الحرب الأهلية الأميركية، عندما كانت ردة الفعل من البيض عنيفة ضد السود، وكان توين يحاول أن ينتقد في شكل واضح التمييز العرقي والفصل العنصري المتزايد، والنظرة الشائعة بأن السود لا يصلحون إلا أن يكونوا عبيداً، فأوضح من خلال شخصية جيم عن صفاته الإنسانية السامية وعاطفته العميقة وكم أنه متشوق للحرية، ومناضل من أجل الحصول عليها. وما يلفت في أدب توين هو هذا التحول من كاتب مرح إلى كاتب قاس متشائم، وناقم على المجتمع. وقد فسر هو هذا التحول بأنه نتيجة لمجموعة من المتاعب الشخصية التي واجهته. فموت زوجته وبناته جعله يحس بوحشة قاتلة ومتاعبه المالية جعلته شديد الحساسية تجاه النظام الاقتصادي، وتجاه الطبائع البشرية، ولكنه مع ذلك، ومع ازدياد نقده لسياسة الولاياتالمتحدة الاستعمارية، لاقي في سنواته الأخيرة نجاحاً كبيراً.