تميز الناقد والروائي، أخيراً، معجب الزهراني بأنه يأسر القارئ والمستمع بمنهجية الحوار، إذ انه من القلائل ممن يدرك ويجيد إفراز فتنة الكلمات. هذا الفرنكفوني المعتّق في حب الحياة وممارستها، يكتب كأنما هو يمارس حياته، ويعيش يومياته كأنه في حال كتابة. انتظر قراؤه عملاً نقدياً فآثر أن يستثير دهشتهم بعمل روائي. ويراهن البعض على نجاحه روائياً، باعتباره من المشتغلين على النصوص السردية، ما يمكنّه من معرفة مكامن القوة ومفاصل الضعف. «الحياة» التقت معجب الزهراني وحاورته حول روايته الأولى «رقص» التي ستصدر قريباً عن دار طوى... وهنا تفاصيل الحوار: هل غدا عالم الرواية مغرياً ومستدرجاً حتى للنقاد ليخوضوا غمار التجربة؟ - كل ميسر لما يغريه ويفتنه، ومن يعبر الجسر الفاصل بين النقد والرواية يتمشى على الجسر ذاته، الرواية كتبها حتى عمال محطة المحروقات، وأحدهم فاز بجائزة كبيرة على مغامرته الأولى في فرنسا منذ أعوام عدة، ومن يجهل أن جارسيا ماركيز كان صحافياً، وجوزيف كونراد بحاراً، ومحمد شكري صعلوكاً تتناثر أيامه بين حانات طنجة وزنقاتها ومغاراتها. المهم إذاً ليس الهوية المهنية للذات الكاتبة بل كيف تكتب الذات نصها الإبداعي، بالطبع لن أقدم إجابة على سؤال سيجيب عليه آخرون ذات يوم أشير فقط إلى أن أول نص أنجزته كان رواية بعنوان "علامات الساعة" كتبتها مطلع الثمانينات وأنا في باري، ونشرت مجلة "اليمامة" خبراً عنها بفضل خيانة بعض الأصدقاء، وحين عدت من تلك الرحلة التي امتدت عقداً من الزمن قررت مراجعتها ونشرها فلم أجد لها أثراً، طبعاً جرحني ذلك الفقد ولا يزال، ولكي أتحايل على الألم، كثيراً ما أعزي نفسي كلما نازعتني إليه فأقول لها اطمئني فقدنا النسخة الورقية أما النسخة الأصلية النسخة الأولى والأجمل فلا تزال في رأسي. يرى البعض أن كتابة الرواية تمكن الذات الكاتبة من قول كل ما يمكن قوله من دون تحرج أو خضوع لرقيب، كيف ترى هذه المقولة؟ - الرواية حقل فسيح وأنا من سلالة فلاحية عريقة، ومن يكتبها بمحبة سيفاجأ بما لم يكن يتوقع. فالكتابة لا تمكنّه من قول بعض ما يريد إلا بقدر ما تستدرجه وتمكر به لتقول هي كل ما تريد على لسانه وبقلمه. نعم لم أضع تجارب نصف قرن في جرة وأختم عليها بالشمع الأحمر كي أكتب، لكن ركض المخيلة الحرة هو الذي مضى بي بعيداً وفي كل اتجاه. وقد أكون أكثر غموضاً ودقة لو قلت إن للتراب الخصيب ذاكرته العميقة. وكم هي كثيرة النباتات الجميلة والخطرة التي تطل علينا منه في كل موسم ويا رب سترك. عنوان الرواية «رقص» ألا يمكن أن نضع الرقص في خانة الرمزية للتعبير عن حالة ما؟ - الرقص فن الجسد الأول وفن الإنسان الأول، والحدود بين دلالاته الواقعية والرمزية لا يمكن أصلاً أن تكون واضحة، من لا ينسى المعنى لحظة الرقص ولحظة الكتابة لن يرقص، أو يكتب بطريقة خلاقة أبداً. ولكنني لا أنظّر للمسألة باعتباري أستاذاً لعلم الجمال منذ 20 عاماً، بل أعبرعن قناعة إنسان فتنه استعمال الجسد بهذه الطريقة الحرة المرحة منذ الطفولة، وإلى اليوم، وبإمكاني أن أنسى نفسي والعالم من حولي وأنا أشاهد عرضة في ساحة مفتوحة أو رقصة باليه على خشبة مسرح مغلق، وفي كل الأحوال لا أدري إن كان العنوان مناسباً أم لا، لكنني وجدته جميلاً، على رغم أنني لم أفكر فيه إلا في مرحلة متقدمة جداً من الكتابة، أي حينما اقترحته علي حبيبتي ذاتها. ألم تثر دهشة رفاق المرحلة والتخصص الذين ترقبوا نتاجاً نقدياً فخرجت هذه الرواية؟ - أرجو ذلك، فأن أُثير دهشة الرفاق القدامى والجدد فهذه عادة تليق بأمثالي ممن لا يطيب له المقام طويلاً في لغة واحدة، أو في موضع واحد أو في مهنة واحدة. ولا معنى لانتظار نتاجي النقدي، لأن نماذج منه منشورة سلفاً في ما بين المشرق والمغرب، ولا أحب المشاريع الكبرى ولم أثق كثيراً بدعاوى أصحابها، وإن كان لي مشروع صغير فالمؤكد أنه المشاركة بجهد بسيط في بث الروح الحوارية، والفكر الحواري والخطاب الحواري في فضاءات لا تزال تفضل الصمت والعنف. وقد أنزل عند رغبة بعض الأصدقاء والمحبين، فأضع بحوثي ودراساتي ومحاضراتي ومقالاتي الحوارية في موقع إلكتروني، ومعها بقية نصوصي التي لم ينشر أغلبها بعد، وأستعمل هنا صيغة الاحتمال لأن مكاسب المغامرة لا تقل عن خسارتها كالمعتاد، وذات يوم استمعت إلى قصائد محمد العلي مسجلة بصوته، فتمنيت لو ظلت شعراً مشتتاً في هواء الجزيرة كي لا يخف وقع الأساطير وتخفت أصواتها. أما بعد، فلك أن تطمئن ما استطعت، فلم أكتب من «رقص» كلمة أو عبارة أو مقطعاً بأصابع الناقد، كنت شخصاً آخر حينها، وكيف لا أكون كذلك وأنا أعود لأقيم سنة أخرى في باريس فأكتب وأترحل وأنتشي بما تيسر من جمالياتها الجذابة حد السرف والعنف، وأظنني كنت «أناي» التي هي آخري الحميم لا أقل ولا أكثر. أرجع البعض نجاح رواية «الحزام» كونها كتبت بالفرنسية وكاتبها يسكن باريس، هل سنقرأ معك حزاماً بلغة أخرى؟ - لن أتحدث عن رواية «الحزام» التي كتبت عنها ثلاث دراسات تراوح بين القراءة الخفيفة العاشقة والمقاربة الجادة التي قد لا تخلو من جفاف، أما عن «رقص»، فأقول إنني لا أدري عن شيء، ولست واثقاً لا في مصيرها ولا في مصيري، إلا أنه عمل أحببته وأنجزته بكل محبة وكفى، والزمن هو الذي يحكم لا اللحظة. لكن من حقي أن أشعر بمتعة تضاهي متعة الكتابة فيما لو ترجمت إلى لغتي الثانية (الفرنسية) أو إلى لغة العالم الأولى (الإنكليزية) وكيف لا استسلم لشعور نبيل كهذا لو وجد فيها آخرون وأخريات ما يغريهم بالمزيد من التعلق بفنون المحبة وفنون الحياة. الانحياز للرواية ألا يعد عقوقاً للتجارب الإبداعية الأخرى؟ - جميل أن ينحاز كل منا إلى ما يحب كما قلت من قبل، وأضيف أنني كتبت نصوصاً شعرية منذ أيام الجامعة، وما زلت أرتكب هذه المعصية الجميلة من حين لآخر، فأغني مرة بلهجة أمي وأبي ومرة بلغة أسلافي، وفي الرواية عبارات كثيرة تدل على ولع بهذه اللغة العالية، حتى في المقاطع السردية التي نشرت «الحياة» عينة منها الأسبوع الماضي، لكني لم أراهن قط على صعود الجبل من هذا الاتجاه لمجرد أن كائناته الفاتنة تراودني كومضات تشع في بعض المقامات والأحوال. كتبت أيضاً قصصاً قصيرة نشر بعضها من قبل وما تبقى سينشر في مجموعة لن يطول انتظارها (واحدة منها انتزعتها من «رقص» انتزاعاً خلال مرحلة المراجعة والحذف الشاقة والمؤلمة لكلينا) لا عقوق إذاً، فما كان للريح أن تهب لصالح سفن السندباد وحكاياته الجديدة، لولا أن روح العصر مواتية والقارئ متواطئ مع كل الفتية المغررين.