أطل علينا منذ أيام العام الميلادي الجديد «2010»، وما أن يذكر أمر التاريخ الميلادي، لاسيما في بلادنا إلا ويتبادر إلى أذهان البعض الكثير من القضايا والأحكام الدينية المتعلقة به، ومن تلك القضايا تحريم استخدامه والتأريخ به، ولقد سبق أن اطلعت على فتوى للشيخ عبدالرحمن البراك بشأن حكم استخدام التاريخ الميلادي، نص فيها على «عدم جواز استخدامه، سواء على مستوى الدولة، أو على مستوى أفراد الأمة، وذلك لأنه من أعظم أنواع التشبه بالكفار»، وأشار «بأن المسلمين وعلى مر التاريخ لم يكونوا على معرفة به إلا بعد أن استولى النصارى على معظم بلاد المسلمين أواخر القرن ال12 الهجري، فأصبحوا لا يعرفون في تعاملاتهم إلا التأريخ بالأشهر الميلادية، الأمر الذي افقدهم هويتهم الإسلامية واضعف صلتهم بدينهم»، «مبدياً استياءه من اعتماد الدولة في السنوات الأخيرة في إصدار الموازنة السنوية بداية العام الميلادي»، وإطلاق مثل هذا الحكم تجاه استخدام التأريخ الميلادي ليس هو الأول من نوعه، إذ صدرت من قبل عدد من الفتاوى من كبار العلماء المحرمة لاستخدامه، بل رأى الشيخ صالح الفوزان أن التأريخ بالميلادي هو مظهر من مظاهر موالاة الكفار، كما جاء ذلك في كتابه «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد». إن مثل هذه الفتاوى غالباً ما تكون نابعة من الرفض لكثير من الأمور التي أخذناها من الغرب، فليست المسألة محصورة لديهم في قضية استخدام التأريخ الميلادي، بل هناك الكثير من الأمور والقضايا التي يتم النظر إليها بنظرة تحريمية بحجة التبعية والتشبه بالغرب الكافر! ولاشك أن هذه النظرة الشرعية وتوسيع دائرتها تجاه كل ما هو غربي من شأنها أن تجعلنا نعيش في معزل عن العالم، وذلك خشية الوقوع في المحظور الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله «من تشبه بقوم فهو منهم»، ولو نظرنا وتأملنا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام العملية وحياة الصحابة من بعده لأدركنا أن التشبه الذي نهينا عنه هو في ما يتعلق بخصائصهم الدينية الواضحة التي لا لبس فيها، وما عدا ذلك فليس مما نهينا عن التشبه بهم، لذلك قال شيخ الأزهر في زمانه محمود شلتوت «المتوفى سنة 1963» في فتاويه «بأن مشابهة المخالفين في الدين إنما تحرم في ما يقصد فيه التشبه في خصائصهم الدينية، أما مجرد المشابهة في ما تجري به العادات والأعراف فإنه لا بأس بها ولا كراهة فيها ولا حرمة»، والعمل بالتاريخ الميلادي كان معلوماً لدى المسلمين على مر التاريخ، وقد كانوا يستخدمونه في عقودهم ولم يكونوا يرون فيه محظوراً أو تبعية للكفار، فلقد جاء في الموسوعة الفقهية «بأن المتعاقدين إذا استعملا تاريخاً غير التاريخ الهجري، وذلك كالأشهر المعروفة لدى الروم، فإن العقد صحيح، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية»، ما يدل على معرفتهم به واستخدامهم له، بل ذهب بعض الفقهاء إلى أبعد من ذلك، فقالوا «لو أنهم أرخوا بعيدٍ من أعياد الكفار وهو معلوم لديهم فالعقد صحيح»، فلو كان التعاقد بالتأريخ غير الهجري محرماً لوضح الفقهاء ذلك ابتداءً مما يدل على جواز استخدامه. إن أهمية التاريخ الميلادي تكمن في جوانب كثيرة من حياتنا، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الأفراد، فكثير من المواعيد والمواقيت الحياتية والتجارية مرتبطة بالتأريخ الميلادي، وذلك كالمواعيد الصحية ومواعيد رحلات الطيران ونحو ذلك، فمثل هذه المواعيد غالباً ما تكون مرتبطة بشكل مباشر بالتاريخ الميلادي وذلك لانضباطه ودقته، ولو كانت مثل تلك الالتزامات مرتبطة بالتاريخ الهجري لحصل بسبب ذلك كثير من الأخطاء التي قد يترتب عليها كثير من المفاسد، وذلك لعدم وجود معيار دقيق يتم من خلاله ضبط الأيام بالتاريخ الهجري، خصوصاً في المواعيد ذات الأجل البعيد، ما قد يؤدي إلى تعارض وتضارب في ذلك. إن العالم كله أصبح قرية صغيرة ونحن وبلا شك جزء لا يتجزأ منه، وانضمام بلادنا لمنظمة التجارة العالمية والتواصل مع الآخر على الأصعدة التجارية والاقتصادية والتعليمية كافة يحتم علينا جميعاً سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الأفراد العمل بالتاريخ الميلادي، والقول بأن العمل به هو نوع من التبعية للغرب وانسلاخ من الهوية الإسلامية مما لا يمكن تصوره على أرض الواقع، إذ لا يعقل أن يكون مجرد التعامل بأسماء للأشهر والأيام الغرض منها الضبط لكثير من الأمور الحياتية هو سبب لانسلاخنا من هويتنا الإسلامية، فنحن نرى جميع الدول من حولنا وهي تعتمد التاريخ الميلادي في معظم شؤونها ولم يحصل بسبب اعتمادهم عليه أي تقديس أو تعظيم لمسميات تلك الأشهر والأيام! إن الدعوة إلى التعامل بالتاريخ الميلادي لا يعني بشكل أو بآخر إلغاء أو إهمال التاريخ الهجري كلية، فأهم الشعائر التعبدية كالصيام والحج مثلاً تعتمد اعتماداً رئيساً في ثبوتها ودخولها على التاريخ الهجري، وهذا ما يدرك أهميته وقيمته جميع المسلمين، على رغم عدم قدرتهم على توحيد كلمتهم في ثبوت دخول الأشهر المرتبطة بالشعائر التعبدية!إذن فالعمل والاعتماد على التاريخ الميلادي، في ما عدا الشؤون التعبدية والدينية، داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم»؛ فالمصلحة الدنيوية التي جعل النبي عليه الصلاة والسلام تقديرها راجع إلينا تقتضي علينا استخدام التاريخ الميلادي لحصول الكثير من المنافع والفوائد من ذلك، وأما التشدد في النظرة تجاه مثل هذه القضية ومثيلاتها فهو ما يزيد الفجوة والتباعد بيننا وبين الآخرين. كاتب سعودي. [email protected]