تثير الرواية الجديدة للكاتب السعودي فهد العتيق «الملك الجاهلي يتقاعد» (المؤسسة العربية للدراسات) أسئلة كثيرة حول الإرهاب والسياسة والمجتمع والتطرف والفراغ، والتحولات التي شهدتها بعض المجتمعات العربية، وأحدثت نقلات نوعية في مختلف مجالات الحياة، وقد تغير حتى مزاج الكتابة، كما يقول العتيق، «وتجدد مسارات الأسئلة والهواجس والمواضيع في الأعمال الأدبية». تلمس رواية «الملك الجاهلي يتقاعد» هموم الفرد العربي، وتوقه إلى حياه عريضة إنسانياً وثقافياً وفنياً، وتقترب من الجيل الشباب تحديداً، باعتباره قوام المستقبل، وتبلور يأسه وإحباطاته، وتشتبك مع كل ذلك وتكشفه، بطريقة فنية تتكئ على الحلم والأسئلة، وعلى تفاصيل الحياة اليومية البسيطة جداً، «لكن بشكل عام الرواية ليست للإصلاح». يقول صاحب «كمين الجاذبية»، ويضيف: «يمكن أن تكون عملاً مجانياً للتسلية. ويفترض أن يحمل النص الأدبي أفكاراً متقدمة تحمل بدورها أسئلة وهواجس الناس، بطريقة الأدب الرفيع وباللغة الرفيعة والسلسة الموحية الواضحة وغير المباشرة، فهناك فرق فني كبير جداً بين الوضوح والمباشرة». يلازم العتيق شعور أنه بصدد الانتقال، تحت ضغط التحولات التي عصفت بالمجتمعات العربية وبتأثير منها، من منطقة الحياة المؤجلة أو الموقتة، إلى مرحلة جديدة «تعبر عن ذاتها بطريقة هي أقرب إلى النص السردي المفتوح على أسئلة الوجود والفلسفة والشعر وأسئلة الواقع الجديدة التي خلفتها لنا مرحلة ما بعد «الربيع العربي» الذي لم تنته فصوله التاريخية المثيرة». يميل إذن مزاج العتيق إلى الكتابة الحرة المفتوحة، وهو لا يفكر بالكتابة سوى كبرهة مشوشة لها أسئلتها وإلحاحها، متخطياً، في هذه اللحظة المعقدة، سؤال النوع الأدبي، رواية أو قصة قصيرة، الذي له مواصفات تقليدية محددة ومتعارف عليها. ويعتقد صاحب «كائن مؤجل»، أن النص الروائي القصير والمكثف والعميق في آن، هو سمة أدب المرحلة المقبلة، طبعاً بعد أن يكتشف الكتاب، كما يذكر، أن النص الروائي الحديث ليس ملحمة وليس مكاناً للاستعراض، «لهذا رأى بعض الكتاب والنقاد أن في كتابات كافكا السردية على سبيل المثال قصائد نثر حقيقية بسبب ما تتصف به لغته من إيجاز وسردية وما تنطوي عليه من توتر يلخص الحدث باختصار مكثف جداً حد الجنون، فاللغة الموجزة والسلسة والعذبة والمفكرة والمبدعة هي جوهر عملية الكتابة الأدبية الحديثة ومن دونها يصبح النص عارياً وفقيراً». لكن هل هذا النوع من الاشتغال الإبداعي سهل وفي متناول جميع الكتاب؟ يجيب العتيق بالنفي، ويؤكد أن ذلك يحتاج إلى مواهب عالية وخيال واسع، وليس إلى قدرات تعبيرية فقط، «لأن اللغة ومستوى وعي الكاتب فنياً وموضوعياً تستطيع تحويل الكتابة إلى فن رفيع أو إلى كتابة ضعيفة، «هذا يؤكد لنا أن اللغة كائن مفكر وليست مجرد وسيلة لتوصيل صورة أدبية، اللغة تتجاوز هذه المهمة لتكون فناً رفيعاً قادراً على إدارة المواضيع والأفكار والشخوص بروح فيها بساطة وعمق في آن واحد، وهذه اللغة يفترض أنها تقود عملية الكتابة الأدبية وليس العكس» . في روايته ينأى فهد العتيق عن المواضيع التي ابتذلت في الرواية العربية، من كثرة التناول، أو على الأقل يجهد في اقتراح زوايا جديدة لمقاربتها، زوايا تجعل منها مواضيع جديدة، أو ما تزال قادرة على إثارة أسئلة حيوية حولها. فهو مثلاً يختصر الفعل الجنسي بين السارد وزوجته في الرواية، بجملة واحدة «وأكملنا المهمة اللذيذة»، لا إسراف في التفاصيل. سؤال الجنس في الرواية يقلق العتيق، ولعله بفضل هذه القلق يشعر دوماً بخشية من تحول اللحظة الجنسية في النص إلى قطعة إباحية رديئة، «لهذا أظن أن النص الأدبي ليس في حاجة إلى الدخول عميقاً في هذه المنطقة بمبالغة في الصورة الجنسية، كما أظن أيضاً أن كتابة مثل هذه اللحظة الحميمة والمثيرة تحتاج إلى تركيز وإيجاز ولغة تحميها من السقوط في المباشرة الفقيرة، التي لا تضيف لثقافتنا الفقيرة أصلاً». تشتغل روايته الجديدة على ثنائية الجاهلية الجديدة والجاهلية القديمة، وفي كلتا الجاهليتين نعثر على بشر محبطين، يكسرهم الواقع أو يمتصهم، «الطبيعي أن الحياة تتقدم والمجتمعات تتطور في مفاهيمها وفي ثقافتها وفي تعاطيها مع شؤون حياتها»، يقول العتيق، ويواصل مستدركاً، «لكن حين تكتشف أن الحياة في زمانك ومكانك ومجتمعك تعود للوراء ثقافياً وفكرياً كلما تقدم بها العمر فهذا يعني إعادة بعث للجاهلية، سواء تعمدنا ذلك أم لم نتعمده، الحياة التي تعتمد على الأقوال والاجتهادات والإشاعات وليس على مفاهيم قواعد الثقافة والعلم الحديث المعترف بها هي جاهلية جديدة تشتغل بالاجتهاد، وهي تنكر أو تنفي المرأة والموسيقى والمسرح والسينما من الحياة في القرن الحادي والعشرين، وهي الجاهلية التي تتوجس من حرية الرأي والإبداع، ثمة عدم ثقة شعبية في علومنا وثقافتنا، وثمة حزن على واقع ثقافة وفن يتدهور فعلاً في عالمنا العربي بسبب الإهمال المتعمد حتى تحولت حياتنا إلى مستنقع سياسي كبير خرجت منه ديدان داعش». تختلف «الملك الجاهلي يتقاعد» عن «كائن مؤجل» روايته الأولى، ومكملة لها في الوقت نفسه، فهي تتحرك في المنطقة نفسها، اليومي وتفاصيله، وأجواء الكآبة والملل والروتيني الرتيب وإيقاع الحياة البطيء، «الحياة المؤجلة في «كائن مؤجل» كانت عن مرحلة انتقالية غير مرتبة في المجتمع، اقتصادية ومكانية واجتماعية ونفسية»، يوضح العتيق ويمضي قائلاً: «أما الجاهلية الجديدة في «الملك الجاهلي يتقاعد» فكانت عن الحياة المغلقة والمتشددة والمتناقضة التي نعيشها، فأنا ابن هذا المكان وهذا الزمان أحبه قدر تذمري منه». لا تنجو رواية «الملك الجاهلي يتقاعد» من الإسقاط، فصول الرواية حول الملك الجاهلي، تضيء الحاضر في شكل أو آخر، فهل هو استدراج جديد للتراثي، حيلة سردية أخرى لمقاربة إشكال ما في اللحظة الراهنة؟ يذهب صاحب «أظافر صغيرة وناعمة» إلى أنه وفي أثناء ما كان يشتغل على الرواية، كان منهمكاً في الوقت نفسه، في قراءة سير ملوك كندة في نجد الجاهلية، كانت القراءة ممتعة ولذيذة بالنسبة إليه وعثر فيها على كوميديا أدبية سوداء، «وتحديداً نهاية عهد كل ملك كندي. كانت الحكايات مكتوبة بروح سردية فيها تلقائية فريدة جدا، حكايات تشحذ الروح والذاكرة فكتبت فصول من حكاية الملك الجاهلي يتقاعد داخل رواية داوود أبو سليمان. حكايات فيها فكاهة سوداء تحاول الكشف بالإيحاء، أن الوسائل التقليدية المستخدمة في التسلط مكشوفة ومستهلكة ونهايتها حتمية تاريخية». الحياة، كما يراها العتيق، مجموعة حكايات متداخلة، كل حكاية تتناسل قصصاً، فيها خيال وموسيقى وحوار وشعر ومسرح، قد تشكل رواية غير مكتملة وبلا نهاية، لهذا هو دائم الحديث عن نفسه بصفته قارئاً بالدرجة الأولى لهذه الحياة، وأيضاً لكتابات موحية غير مصنفة لمبدعين مختلفين أحبهم صاحب «إذعان صغير»، مثل إبراهيم أصلان وكافكا وأني ارنو وسركون بولص وغيرهم، «قارئ مثابر لمشاهد الحياة اليومية، لتأمل حالة أو حقيقة هاربة أو لحظة درامية عميقة أو لحظة زمنية تستحق الإيقاف». ولا يعتبر اليومي وتفاصيله، التي هي صلب اشتغاله، واقعاً، بل يرى فيها ما يفوق الخيال أحياناً. يلفت الكاتب السعودي الذي ترجمت بعض أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية، إلى أنه يرى في صور الحياة اليومية ما يشبه مشاهد مسرحية صغيرة تتحرك أمامه، «هذه الصور التي نظن أنها واقع ما هي إلا دراما يومية خام، عجينة من مشاعر وخيال وهواجس وأسئلة وأحلام. وهنا يكون الحلم هو سيد الموقف، لكن على طريقة التخييل الذاتي، لأني لا أكتب إلا ما أعايشه من قرب بطريقة يشتغل فيها الحلم بشكل كبير، فالأحلام والخيال المصاحب لها هي جزء أساسي يُسهم في تشكيل واقعنا ووعينا ولا يمكن إهماله». يحاول صاحب «هي قالت هذا» الكتابة بطريقة تتماس مع طريقة فهمه لما يقرأه، من مشاهد وصور يومية ونصوص وأفلام ومسرحيات، يسعى إلى أن يكتب بطريقة تشبهه في الهدوء التام للقبض على لحظة فنية شعورية، تبدأ من مشهد عام أو خاص أو حلم يقظة أو حلم منام، «أكتب بهذه اللحظة وليس عنها، لكن بلغتي التي تأخذ مني وقتاً؛ لكي تستقر على حالتها النهائية، حين أشعر أن لغة العبارات صارت مثل ماء سهل يتدفق بهدوء وسلاسة». يصف العتيق النقد الروائي في السعودية بالاستعراضي، ويعتبره نصاً لا ينطوي على أي فنية في النقد، وغير قادر على تقديم رؤية مكثفة ومبدعة حول النصوص الإبداعية، من هنا فهو يجد نفسه معنياً بمتابعة ما يصدر لكتاب بلاده من روايات وقصص، وله حول هذه الروايات والقصص آراء ورؤى، إذ يعثر فيه على ميلاد صوت جديد للمجتمع، طغى بجمال على صوت الصحافة والسياسة والاقتصاد في زمن التردي العربي، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. لذلك فإنه يعتقد بأن النقد القاسي الذي ووجهت به الرواية السعودية فيما مضى، والملاحظات الجوهرية التي تمس صميم بنيتها والمواضيع التي شغلت كتابها، هي في مصلحة هذه الرواية؛ لأنه يصارح الروائيين بعيوبهم والمآخذ التي وقعوا فيها، وكل ذلك، في رأيه، ينطلق من احترام لاجتهادات الروائي السعودي. ويشير إلى أن روايات وقصص أمل الفاران وعبدالرحمن الدرعان ووفاء العمير ويحيى امقاسم وصلاح القرشي ومنيرة الإزيمع، على سبيل المثال، كسرت قاعدة الروايات التي كتبت بتكلف وافتعال، «هذه النصوص الروائية والقصصية الكبيرة في أحلامها الإنسانية والاجتماعية والتلقائية في أدائها السردي، ذهبت نحو سلاسة وعفوية مفقودة في روايتنا المحلية، وهي في ذهابها الهادئ والعذب مالت نحو عتبة أدبية جديدة رفيعة». لكن تأمل مستوى النص الأدبي، يستحيل، وفقاً للعتيق، في معزل عن أزمة الثقافة، وبعيداً من الواقع الاجتماعي وأوضاعه المختلفة، فتطوير المؤسسات الثقافية، كما يقول، له علاقة بالواقع ذاته، «لمواجهة أشكال تخلفه، بدءاً من حرية التعبير، مروراً بتواصل واستمرار أنواع الثقافة الأخرى، مثل الاهتمام بالأحياء باعتبارها المسرح الحقيقي المفتوح، إلى السينما والموسيقى وغيرهما من الفنون. فالمناخ الثقافي والأدبي العام لأي بلد، ليس مجرد صفحة ثقافية في جريدة، أو أمسية أدبية في نادٍ أدبي. الثقافة مناخ عام».