كيان قائم بذاته، وآثار لا يمكن إنكارها، وإعادة صياغة لشعوب وثقافات رغم أنف الرافضين. إذا أردت أن يكون لك صوت، فالجأ إليها. وإن فكرت في فضح غريم لك، فليس لك سواها، وإن كنت ممثلاً نظاماً ما وأردت أن تؤلب الرأي العام أو تحشده، فعليك بها. وإن كنت معارضاًَ، ونويت فضح أساليب النظام القمعية، فابحث عمن ترضى بك وترضى بها. وإن كان هدفك تغييب شعب، أو إيقاظه من غفلته، فتعاقد مع إحداها. وإن كنت تحن إلى الماضي فابحث من خلالها عن فيلم بالأبيض والأسود. ولو كنت مواطناً عربياً لا حول لك ولا قوة، فامكث أمامها واجعلها مسكناً لآلامك. الفضائيات العربية في 2009 وصلت الى مرحلة النضج والبلوغ. صارت جزءاً حيوياً من كل بيت عربي. بداية العام الفضائي كانت بالغة السخونة. مجزرة غزة التي كانت استهلالة العرب في العام أثبتت مجدداً أن حروب الألفية الثالثة ومجازرها لا تكتمل من دون كاميرا التلفزيون. مشاهدة حرب حصرياً على هذه القناة أو تلك تحولت من صدمة بصرية ونفسية إلى طقس يومي داوَم عليه الملايين. سطع اسم «رامتان» ربما للمرة الأولى في سماء المشاهد العربي، بعدما تمكنت هذه الوكالة الفلسطينية المصورة بإمكانات شحيحة أن تحتل مكان الصدارة طيلة أيام وليالي المجزرة. يوميات المجزرة المصورة كانت أشبه بسلاح ذي حدين، أحدهما يضمن توثيقاً لا مجال للعب والإنكار فيه لكل ما ارتكب من انتهاكات، والآخر فتح الباب على مصراعيه أمام جدلية مدى أخلاقية عرض مشاهد الجثث والأشلاء. جدلية أخلاقية فضائية أخرى شغلت الرأي العام العربي خلال عام 2009، فهل مجاهرة شخص ما بتفاصيل حياته الشخصية يمكن اعتبارها عملاً غير أخلاقي يخضع صاحبه للمساءلة؟ والإجابة في العالم العربي هي «نعم»، لا سيما إن كانت المجاهرة ذات طابع جنسي. مجاهرة شاب سعودي بفتوحاته وعلاقاته النسائية المتعددة من خلال برنامج «أحمر بالخط العريض» الذي تبثه قناة «إل بي سي» طرح هذا السؤال. ويمكن القول إن مقطع مجاهرة الشاب بفتوحاته الجنسية تحول بعد دقائق من بثه إلى أحد أكثر المشاهد تحميلاً ومشاهدة على شبكة الإنترنت. والأكيد أن نسبة كبيرة من مشاهدي المقطع لم يفعلوا ذلك بغرض التعبير عن غضبهم على مجاهرته ب «الفسق والفجور»، ولكن بدافع ربما من حب الاستطلاع. ويمكن القول إن الفضائيات العربية، الدينية منها والعامة، نجحت نجاحاً مدوياً في عام 2009 في تجاهل دورها في مسألة التقارب بين الحضارات وحوار الأديان وردم الهوة بين الشرق والغرب. ولعل حادث مقتل المصرية مروى الشربيني في ألمانيا على يد مواطن ألماني من أصل روسي بسبب العنصرية ضد المسلمين كان أبرز مثال على ذلك. فقد أفرد عدد من البرامج الفضائية ساعات طويلة لتغطية الحادث، وتحليل أسباب الكراهية المتنامية ضد المسلمين في الغرب، ووصف الغرب بالتحيز والعنصرية والجهل بمبادئ الإسلام وقيمه السمحة. لكن غاب عن أي منها مساءلة الذات وتحليل أسباب هذا «الجهل». في السياق ذاته، سن عدد من الفضائيات العربية أسنانه لصب شتى أنواع الغضب والشجب على السويسريين بعدما اختاروا تأييد قرار حظر بناء مزيد من المآذن. «العنصرية» و «الكيل بمكيالين» و «ادعاء الديموقراطية» إلى آخر قائمة الاتهامات التي انصبت على رؤوس السويسريين لتصويتهم، والفرنسيين والهولنديين والإسبان لفتح ملفات مشابهة في أعقاب قرار الحظر. وفتحت برامج عدة أرشيفها وبدأت تجتر أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم والفيلم الهولندي المسيء للإسلام لتعيد وتزيد الاتهامات ذاتها. وبقي دور الإعلام في نقل الصورة الحقيقية للإسلام – وهو العامل المشترك في الغالبية العظمى من تلك الأحداث - منطقة محظور الاقتراب منها. لكن التمحيص والتفحيص جاءا من نصيب المشاحنات الشخصية والأهواء الفردية على حساب المواطن العادي. ويمكن القول إن الإعلام الفضائي الرياضي نجح بجدارة في جذب ملايين المتابعين في مصر والعالم العربي، إذ قدم الخلطة السرية: جنس، وخوض في الأعراض، وتلويح بتقديم مستندات مرئية ومسموعة تبث الفسق والفجور. في السياق ذاته، انزلقت فضائيات رياضية في غياهب خلافات شخصية أخرى بين المذيعين والمعلقين الرياضيين، وسمحت لهم بتوجيه الشتائم والاتهامات إلى بعضهم بعضاً على الهواء مباشرة. انزلاق آخر أكثر ضراوة وأشد فتكاً قامت به فضائيات لتجد نفسها طرفاً فاعلاً في حدث العام بلا منازع، ألا وهو موقعة مصر والجزائر. إذ ضلعت الفضائيات لتقوم بإشعال الكثير من الفتن بين الشعبين قبل المبارتين وبعدها. أحلام أخرى للمشاهد العربي تحولت إلى مادة ثرية لبرامج الحوار على مدار عام 2009. بعضهم حولها إلى كوابيس، وبعضهم الآخر أعاد تشكيلها وتوجيهها، وآخرون تلاعبوا بها حسب أجندات مسبقة. ولمن لا يهمه الأمر، فهناك دائماً ما لذ وطاب على متن الفضائيات الفنية والترفيهية. مسلسلات بلا حدود، وأفلام من دون توقف، ومسابقات من دون قيود، ولقاءات فنية مع ممثلين وممثلات ومطربين ومطربات. أثبت عام 2009 أن الفضائيات العربية تشكل فعلياً جانباً كبيراً من وجدان المشاهد العربي. هي قادرة على نقل واقعه، وإعادة صياغته حسب الحاجة.