نشرت صحيفة «الحياة» نهاية الأسبوع الماضي خبر الفتاة التي تمت مداهمتها داخل إحدى دورات المياه النسائية بكورنيش الدمام، على أيدي فرقة تابعة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي وصفها محرر الخبر، الذي كان أحد شهود العيان عليها، بالحادثة المرعبة، بسبب ما حصل للفتاة من ضرب وركل وتكشف لأجزاء من جسدها من جراء ذلك. وفي الوقت نفسه أكد المتحدث الإعلامي للهيئة بالمنطقة الشرقية أن الهيئة قامت بالتحفظ على المرأة ومعالجة وضعها بما يكفل المحافظة على سلامتها والستر عليها، وإخلاء سبيلها في حينها. لست معنياً في هذا المقال بأن أقدم للقارئ الكريم تصديقاً أو تكذيباً للتفاصيل التي أشارت إليها الصحيفة، أو التعليق الذي أوردته الهيئة، فالقارئ من حقه أن يأخذ بالرواية التي يراها أقرب لمعطيات الواقع الذي نعيشه، ولكن ما يهمني التطرق إليه في هذا المقال هو العبارة المذكورة في تصريح الهيئة الإعلامي، من أن الهيئة «تعاملت مع المرأة بما يكفل سلامتها والستر عليها». إن القائمين بأعمال الحسبة يفترض بهم أن يكونوا هم أولى الناس إعمالاً لجانب الستر، الذي يعتبر من المبادئ العظيمة التي حثت عليها الشريعة في كثير من النصوص الشرعية، في التعامل مع أهل الأخطاء والزلات، ولذلك قال أبو بكر الصديق ذات مرة رضي الله عنه «لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لسترته به»، رواه عبدالرزاق في مصنفه «18931». وأبلغ من ذلك ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس ليلاً بالمدينة فرأى رجلاً يزني بامرأة، فلما أصبح قال للناس: أرأيتم لو أن إماماً رأى رجلاً يزني بامرأة فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين؟ قالوا إنما أنت إمام، فاعترض علي بن أبي طالب وقال: ليس لك ذلك، إذن يقام عليك الحد، فالله لم يأمن على هذا الأمر بأقل من أربعة شهود. قال الإمام الغزالي معلقاً على ذلك: وهذا من أعظم الأدلة على طلب الشرع لستر الفواحش، فإن أفحشها وهو الزنى قد نيط بأربعة من الشهود العدول، فانظر إلى ستر الله كيف أسبله على العصاة من خلقه، بتضييق الطريق في كشفه عنهم ». إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً ما ترفع شعاراً مفاده أن معظم القضايا المضبوطة، لاسيما المتعلقة بالمرأة، يتم الستر فيها وتصدر في ذلك التقارير والإحصاءات التي تفيد بأن ما لا يقل عن 90 في المئة من قضايا الخلوة ونحوها يتم الستر فيها، بمعنى أن تلك القضايا تنتهي بحفظها بصورة لا يعلم عنها أحد إلا من باشر الضبط فيها من رجال الهيئة، ولاشك أن هذا المعنى هو الذي يتبادر إلى ذهن كل واحد عندما يسمع ويقرأ مفردة الستر، ولكن هل الهيئات فعلاً تطبق مفهوم الستر وفقاً لما يتبادر إلى أذهان الجميع؟. لن أجيب عن هذا التساؤل بالاعتماد على القيل والقال، أو على مجرد الأحداث والأخبار، ولن أعود إلى الأنظمة الصارمة، التي تقضي بترك المرأة في حال الخلوة تحقيقاً لمصلحة الستر، بل سأنقل مفهوم بعض منسوبي هيئات الأمر بالمعروف لمفهوم الستر لديهم وكيفية تعاطيهم لهذه القضية، وذلك من خلال دراسة قدمت لجامعة نايف للعلوم الأمنية تحت عنوان «الستر وأثره في الوقاية من الجريمة»، دراسة تطبيقية على مراكز الهيئة بمدينة الرياض، إذ سأل الباحث عدداً من أعضاء الهيئات العاملين في الميدان السؤال الآتي: في حال الستر هل يتم تسليم المقبوض عليه لوليه؟ وهل ذلك يعد نوعاً من الفضيحة؟ فكانت جميع الإجابات متفقة على أن ذمة الساتر لا تبرأ إلا بتسليم المرأة أو الفتاة لأبيها أو من ينوب عنه من إخوانها، وإخباره بما حدث وتوجيهه للعلاج المناسب، ورأوا عدم اعتبار ذلك نوعاً من الفضيحة بل هو عين الستر، حتى لو كانت المرأة متزوجة!. والعجيب أن بعضهم أشار إلى أن المقبوض عليه إن كان رجلاً كبيراً فمن الأولى إطلاق سراحه من دون الرجوع إلى من يكفله خشية الفضيحة!. هذا هو مفهوم الستر لدى الهيئة الذي لاشك أنه يتنافى كثيراً مع المعاني التي شرع من أجلها الستر، فذلك الأب الذي يأتي إلى مركز الهيئة لاستلام ابنته ويقول له رجل الهيئة تم ضبط ابنتك مع شاب، ماذا تتوقع من هذا الأب أن يتصرف مع ابنته في ذلك الوقت؟ بل والأهم: ماذا سيفعل أهل الفتاة بابنتهم لاحقاً بعد أن يتم تسلمها من مركز الهيئة؟. لقد سبق أن التقى عدد من منسوبي الهيئات بالشيخ عبدالله بن جبرين، رحمه الله، وسألوه عن قضية الستر على المرأة في قضايا الخلوة ونحوها، فأجاب «بأن المرأة حتى لو عرف عنها بأنها صاحبة منكر وأنها تريد الفاحشة ولم يتكرر منها ذلك وترتب على إخبار وليها مفسدة، فالواجب الستر وأخذ التعهد عليها، ورأى أنه لا يتم إبلاغ الأب أو الولي إلا لمن كانت ذات عادة متكررة»، واللقاء موجود في الموقع الرسمي للشيخ. إذن فالهيئة بهذا الستر الفاضح تضرب بعرض الحائط الأخطار والأضرار التي قد تلحق بالفتاة من وليها، أباً كان أو أخاً، التي قد تصل إلى ما يُعرف في مجتمعاتنا العربية بجرائم الشرف، التي لا يزال مجتمعنا حتى اللحظة يناقش في وجودها من عدمها، وما قضية ريم ونوف عنا ببعيد، فلو كنا نملك مزيداً من الشفافية والشجاعة المجتمعية لأدركنا الواقع على حقيقته. * كاتب سعودي. [email protected]