ثمة نزعتان متناقضتان، على الصعيد الدولي، في التعامل مع القضية الفلسطينية. الأولى، وتتصرف على أساس أن هذه القضية تتآكل مع الزمن، وأن العالم ملّها، وتعب منها. وتتغذّى هذه النزعة من انحراف هذه القضية (لاستغراقها بالرموز الدينية والتفاصيل «العقارية» وشؤون الحياة اليومية)، ومن انقسام الفلسطينيين، وتخبطهم في إدارتهم لأوضاعهم كما لصراعهم مع عدوهم، ومن ضعف فاعلية العالم العربي في التعامل معها. كذلك فإن هذه النزعة تتغذى من انشغال العالم بأزمات ومشكلات أخرى كبيرة وخطيرة، كالأزمة الاقتصادية العالمية، ومشكلات البيئة، إلى المخاطر الناجمة عن صعود القوى المتطرفة، في أفغانستان وباكستان، إلى جانب صعود نفوذ إيران (التي تسعى لحيازة طاقة نووية) في الشرق الأوسط عموماً والعراق خصوصاً، وتحديداً بالقرب من مصادر النفط العالمية. وكان تيار «المحافظين الجدد» اشتغل على تنمية هذه النزعة، في عهد إدارة بوش المنصرفة، بادعاء أن لا علاقة لقضية فلسطين (وبالتالي وجود إسرائيل) بأزمات المنطقة، وأنه ينبغي للعالم ألا ينشغل بها. وهذا ما كرره اخيراً افيغدور ليبرمان (وزير خارجية إسرائيل وزعيم حزب إسرائيل بيتنا)، بقوله: «لماذا علينا أن نقبل بما يروجه آخرون وكأن مشاكل العالم محصورة فينا؟ التفجير والقتل يعمّان بقاع الأرض. ما هذا الانشغال بالمفاوضات مع سورية؟ لماذا نستعجل الأمور؟ هناك مشاكل أكثر خطراً وحدّةً في العالم... علينا أن نقول لكل هؤلاء الذين يحاولون أن يعلمونا ما يجب أن نفعل وكيف يتحقق السلام، اذهبوا وحققوا السلام في أماكن أخرى في العالم»! (تصريح للإذاعة الإسرائيلية 9/12) النزعة الثانية، تناقض الأولى، وتتصرف على أساس أن أزمات المنطقة، وضمنها ضعف الاستقرار الدولي والمجتمعي في كثير من البلدان العربية (مثلاً، السودان واليمن والصومال والعراق ولبنان)، وتزايد التهديد الإيراني، وصعود الإسلام السياسي فيها، إنما تتغذى من الصراع العربي - الإسرائيلي، وأن حل هذا الصراع ربما يساهم في تخفيف بؤر التوتر هذه ويجففها؛ لأن العكس يمكن أن يؤدي إلى تقويض استقرار الكثير من الأنظمة العربية، ويضع منابع النفط في دائرة الخطر، كما يضفي غموضاً سلبياً على مستقبل العراق؛ إضافة إلى انه يعزز من وضع إيران. ومن وجهة نظر أصحاب هذه النزعة (الدوليين والإقليميين)، فإن إسرائيل (في ظل حكومة نتانياهو اليمينية) لا تلقى اهتماماً مناسباً لهذه التهديدات، ولا تنظر إليها بعين الخطورة، ومثال ذلك محاولتها ربط عميلة التسوية باستفتاء جمهورها (متجاهلة القرارات الدولية في شأن عدم جواز احتلالها أراضي الغير بالقوة)، وكأن التسوية تجرى بين الإسرائيليين، وليس مع الأطراف العرب الآخرين. ودليل ذلك أيضاً رفض إسرائيل مجرد تجميد موقت للاستيطان، وتسعيرها عمليات تهويد القدس وهدم بيوت المقدسيين، والسكوت عن تصرفات المتطرفين من المستوطنين والمتدينيين، والتي وصلت حد حرق مسجد ياسوف؛ ما يهدد بتحويل الصراع من الدائرة السياسية إلى الدائرة الدينية، لا سيما في ظل إصرار حكومة نتانياهو على اعتراف الفلسطينيين بيهودية إسرائيل. وعلى ما يبدو، فإن هذه النزعة في طريقها الى التغلب على الأولى، في الأجندة الدولية والإقليمية للمنطقة، وهذا ما يفسر الضغط الدولي (المباشر وغير المباشر) على إسرائيل. ومن مظاهر ذلك موقف الاتحاد الأوروبي في شأن إقامة دولة فلسطينية في حدود العام 1967، واعتبار القدس عاصمة لدولتين، وتقرير غولدستون، والمقاطعة الأكاديمية البريطانية لإسرائيل، ومقاطعة بضائع المستوطنات، والتحول في الرأي العام الأوروبي، وظهور منظمة «جي ستريت» (كلوبي موازٍ لمنظمة «ايبالك») في الولاياتالمتحدة، وضجر إدارة البيت الأبيض من المواقف والتملصات الإسرائيلية، في ما بات يعرف عند الإسرائيليين بمسار نزع الشرعية عن دولتهم. وثمة ما يؤيد ما ذهبنا إليه، بتصريح ميغل انخيل موراتينوس (وزير الخارجية الإسباني)، الذي ستتولى بلاده رئاسة الاتحاد الأوروبي، والذي قال فيه (قبل أيام)، «انه سيعمل على قيام دولة فلسطينية عام 2010 تعيش بجوار إسرائيل... هذا ما سنكافح من أجله... الدولة ضرورية والأفضل ان تقوم في اقرب وقت ممكن». لكن المشكلة أن هذه التطورات تفتقد مفاعليها المحلية، فلسطينياً وعربياً، فالقوى المعنية ضعيفة ومشتتة، والتضامن العربي هش جداً، وثمة دول عربية لا تتحدث مع بعضها بعضاً، والوضع الفلسطيني منقسم على ذاته، والرئيس الفلسطيني يهدد بالاستقالة، بعد أن أفلس طريق المفاوضة. إزاء ذلك ثمة ما يرجح أن الدول الكبرى باتت مقتنعة ومعنية بالبحث عن مخرج مناسب عبر التدخل الفعال لاستعادة زمام المبادرة، في قيادة التطورات الشرق أوسطية، وحمل إسرائيل، بطريقة أو بأخرى، على التجاوب مع عملية التسوية. ولعل هذا يفسر تركيز الأطراف الدولية والإقليمية المعنية على إقامة دولة للفلسطينيين، لدرجة إبداء الاستعداد لتقديم ضمانات سياسية وعسكرية (ضمنها وجود قوات دولية في الضفة الغربية). كما يفسر ذلك تزايد الحديث عن صيغة تسوية موقتة، تركز بداية على ترسيم حدود إسرائيل، بدعوى أن ذلك يمكن أن يحلّ ثلاث قضايا (من قضايا الحل النهائي)، هي الحدود والمستوطنات والترتيبات الأمنية والمائية (وفق حدود 67، مع تبادل أراض وفق معايير كمية ونوعية مناسبة). وثمة طموح بين الأطراف الدوليين المعنيين، لترقية هذه الصيغة إلى توافقات عامة، حول قضيتي القدس واللاجئين (إن أمكن)، بفترة زمنية محددة، بحيث تقسم القدس الى عاصمتين على أساس ديموغرافي؛ مع مكانة خاصة للحرم القدسي (بحيث تديره هيئة دولية تشارك فيها خمس دول عربية). أما قضية اللاجئين الفلسطينيين، فيجري مجرد اعتراف إسرائيل بمعاناتهم، من دون أن تتحمل مسؤولية ذلك؛ مع إمكان استيعابها لبضعة آلاف منهم؛ ما يعني أن حق العودة مستبعد تماماً في الإطار التفاوضي السائد، وأن هذا الحق يمكن أن يمارس فقط في الأراضي الفلسطينية. وهذا المشروع يتقاطع مع مقترحات التسوية التي طرحها اخيراً شمعون بيريز رئيس الدولة، وإيهود باراك (وزير الدفاع وزعيم حزب العمل)، وإيهود اولمرت (رئيس الحكومة السابق)، وليفني (زعيمة كاديما) وشاؤول موفاز (نائب رئيس حزب كاديما)، على أساس أن ذلك يجنّب إسرائيل خطر الدولة الثنائية القومية، ويحفظ يهوديتها، ويحسن صورتها الدولية، ويعزز مكانتها لدى الولاياتالمتحدة (ويساعد سياستها في الشرق الأوسط)؛ وهي ليست بعيدة من تصورات نتانياهو. يبقى القول ان هذه التسوية (على علاتها) مرهونة بحسم إدارة اوباما لأمرها في شأن الضغط على إسرائيل، وتقديم الضمانات (السياسية والأمنية والمالية) لها، مثلما هي مرهونة (ربما في شكل أكبر)، بمتطلبات التسوية الإقليمية، التي يفترض أن تستوعب سورية (بالاستجابة لمطالبها في شأن استرجاع أراضيها المحتلة)، وأيضاً، أن تتجاوب، مع مطالب إسرائيل، المتعلقة بالتطبيع مع الدول العربية، وتقديم ضمانات لها، في شأن تحجيم نفوذ إيران، والحؤول دون تحولها دولة نووية؛ وعدا ذلك من الصعب الحديث عن تسوية فلسطينية أو إقليمية، في المعطيات الحالية. * كاتب فلسطيني