في اليوم الأول الذي زارت مجد «مكتبة الأسد» في دمشق وهي المكتبة العامة الأضخم في سورية، لم تكن الشابة تعرف من نظام المكتبة سوى أنه لا يحق لها الدخول الى قاعات المطالعة إلا بموجب بطاقة الاشتراك حصراً، غير أنها بعد شهر من ارتيادها المكتبة أصبحت خبيرة في إرشاد القراء الجدد حول بقية التعليمات التي ينبغي عليهم التزامها، ومنها أن تودع المحافظ النسائية والمعاطف والملابس الفضفاضة في المشجب وأن يحتفظ القارئ بكراسه وقلم لتدوين الملاحظات ويبقي هاتفه النقال بوضع صامت. والأمر الأهم من هذا على حد تعبير مجد، وهي طالبة في كلية التربية في جامعة دمشق، أن يعرف القارئ أو الزائر الكيفية التي تتوزع فيها المراجع والكتب في المكتبة ليستطيع الحصول على طلبه منها، وهنا يأتي دور الموظفين. إلا أن القراء القدامى الذين خبروا قاعات المكتبة هم أكثر تعاوناً في بعض الأحيان من الموظفين، إذ يمكنهم بسهولة إرشاد القراء الجدد إلى الفهارس الورقية أو الالكترونية للبحث عن العنوان المطلوب، بعدها ينتقل القارئ العادي إلى قاعة المطالعة العامة. ويحصل الباحثون على بطاقة بلون أبيض لها ميزات تخول صاحبها الدخول إلى القاعات التخصصية التي تتوزع إلى قاعة مطالعة كتب الأدب والدين واللغة، وقاعة كتب المعارف العامة والاجتماعيات والفلسفة والفنون، وقاعة كتب العلوم، وقاعة المطالعة بالوسائل السمعية والبصرية، وقاعات الدوريات القديمة والحديثة، وقاعة مطالعة التشريعات السورية ومنشورات حزب البعث، وقاعة المخطوطات والكتب النادرة، وثمة قاعة للحاسبات الالكترونية وأخرى لمطالعة المكفوفين. ويوضح الموقع الالكتروني لمكتبة الأسد الوطنية التي افتتحت في أواخر العام 1984 نظام المكتبة التي تفتح أبوابها للقراء من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الثامنة مساء ويمكنها أن تستقبل في آن واحد 750 قارئاً في جميع قاعات المطالعة، ويعمل فيها 376 عاملاً في مختلف المديريات والأقسام. غير أن نظام المكتبة لا يسمح للباحثين بالاطلاع على النسخ الأصلية للمخطوطات وإنما يتم إطلاعهم على النسخ المصورة لها. ويسمح للباحث بالاطلاع على المخطوط الأصلي في المرحلة الأخيرة من بحثه. وتتوافر في قاعات المطالعة المراجع الأساسية التي يمكن للقراء تناولها يدوياً من الرفوف، أما بقية المراجع غير المتوافرة في القاعة، فيمكن طلبها من المستودعات من طريق أمناء القاعة. وتتم الإفادة من مراجع المكتبة من قبل جميع المواطنين والزوار الذين تجاوزت أعمارهم سن الثامنة عشرة بحصول هؤلاء على بطاقة اشتراك خاصة سنوية. ونظام الإعارة في المكتبة داخلي فالإعارة الخارجية ممنوعة ويمكن القراء طلب نسخ لما يرغبون من صفحات المراجع التي يطالعون فيها على أفلام مصغرة أو نسخ ورقية عادية. وفي المكتبة شرفة يمضي فيها القراء بعض الوقت للاستراحة من القراءة، أو في انتظار أن يصل الكتاب المطلوب عبر الموظفين إلى قاعة المطالعة. وبالنسبة للشباب الجامعي تشكل هذه الشرفة مكاناً للتعارف وتبادل الأحاديث التي ربما تبدأ بعنوان الكتاب الذي يبحثه عنه القارئ ثم قد تمتد إلى أكثر من ذلك. ومن الملاحظ أن المكتبة الوطنية السورية التي تضم آلاف الكتب والمؤلفات تنشط الحركة فيها في الأيام القريبة من موعد تسليم الأبحاث والمشاريع الجامعية إذ يتوافد شباب الجامعة للبحث عن مراجع للاقتباس منها أو الاستناد إليها كل بحسب منهج بحثه. إلا أن من النادر أن تجد هؤلاء الشباب والطلاب في أيام القراءة الحرة أي في فصل الصيف مثلاً حيث تكون المكتبة فارغة إلا من الباحثين التقليدين، وهذا الأمر، من وجهة نظر الدكتور مازن عرفة (مدير النشاط الثقافي في مكتبة الأسد وباحث في علم المكتبات)، «لا يعبر فقط عن انخفاض ارتياد الشباب للمكتبات العامة بل يشكل مؤشراً حقيقاً لعزوف الشباب عن القراءة والمطالعة إلا للضرورة. ويقول: «القراءة الحرة تتراجع يوماً بعد يوم تحت ضغط ثقافة الاستهلاك اليومي»، مشيراً إلى أن الشباب يبحثون من وراء مطالعتهم إلى المنفعة المباشرة كتلك التي يكسبونها في إنجاز أبحاث ووظائف تقدم للجامعة أكثر من بحثهم عن حب المعرفة والاطلاع». ويضيف: «الأزمة ليست أزمة انخفاض ارتياد الشباب للمكتبات العامة إلا لضرورة البحث وإنما هي أزمة قراءة بالدرجة الأولى وهي مشكلة بنيوية في الثقافة العربية». والسبب في تراجع القراءة يعود برأي الباحث إلى عوامل عدة منها: «نظام التدريس في الجامعات الذي يعتمد على التلقين والحفظ، إلى جانب انحسار الطبقة الوسطى الحاملة للثقافة تحت ضغط المتغيرات السياسية والاجتماعية، واختفاء عادة القراءة المرتبطة بنخبوية الأحزاب التقليدية، التي وصلت إلى طرق مسدودة ولم تعد تنشر ثقافة خاصة مرتبطة بها». ويضيف الباحث: «جيل السبعينات على سبيل المثال الذي كان يعيش في خضم أحداث سياسية مهمة وكان يقرأ لكبار المثقفين كزكريا تامر وعبدالرحمن منيف وغيرهم من الأسماء المنخرطة في مشروع ثقافي لأن الشباب كان ينظر إلى المستقبل برؤى منفتحة». ويرى الذي نشر له مؤلف تحت عنوان «سحر الكتاب وفتنة الصورة»، أن الصورة وأدواتها الالكترونية كالمحطات التلفزيونية وشبكة الانترنت تعتمد على الرؤية الانتهازية للوقت والمصالح والتي تقوم على المعالجة السطحية بعيداً من العمق، وعلى رغم ذلك فهي تنافس المكتبة التي تحولت إلى مخزن للكتب والأبحاث الجامعية بدلاً من أن تحتضن أدوات البحث العلمي الحقيقي الذي يتجه نحو معالجة قضايا المجتمع». ويعتقد الباحث أن «من المفيد لاستقطاب الشباب وجذبهم لارتياد المكتبات العامة وجود مشروع ثقافي وطني واضح المعالم، وإعادة خلق قيم ثقافية جديدة والإكثار من إقامة معارض الكتب وتنشيطها بدعوة روائيين مشهورين وكتاب وجعل هذه المعارض في أماكن وجود الشباب داخل الجامعات مثلاً».