يجدر بالعرب أن يفكروا بعقل بارد في الوقائع العميقة، وألا يستمرئوا البقاء على السطح المُخادع لمؤتمر «كوب 15»، الذي اختتم في كوبنهاغن. ليس أساسياً، على رغم أهميته المذهلة، ذلك التمويل المعلق في المستقبل. نجحت وعود أميركا بالتمويل في تحريك بعض الأمور، لكنها ليست شيئاً أساسياً، خصوصاً بالنسبة للعرب. وبغض النظر عن التقويمات المختلفة للمؤتمر، فلربما الأقرب الى التفكير الهادئ هو القول ان التغيير الضخم في المشهد العالمي للطاقة قد حدث، وتغير بالتالي مجمل الاقتصاد المرتكز في حياته على النفط، وكذلك المنتظم السياسي الذي استمر منذ اكتشاف نفط كركوك وحتى لحظة «كوب 15»، ما يدل على عمق التغيير. فليس من أهمية كبيرة للخلاف على تقويم المحصلة المعلنة ل «مؤتمر الأممالمتحدة عن التغيّر في المناخ - كوبنهاغن 2009»، الذي عرف أيضاً باسم «كوب 15» COP 15، في إشارة الى انها الجولة الخامسة عشرة للتفاوض بين الأطراف المعنية بالتغيّر في المناخ. يكفي التأمل في كلمات الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي يقود حملة ضخمة ضد استمرار العلاقة بين النفط واقتصاد بلاده الذي يمثّل القاطرة التي تقود الاقتصاد العالمي. بلهجة حاسمة، قال أوباما: «سأقود الاقتصاد الى الطاقة الخضراء». ويتوافق ذلك مع ما فعله منذ تسلمه الرئاسة، من طريقة إدارته أزمة صناعة السيارات (بحيث أدّت الى فرض الأنماط الأقل اعتماداً على البترول، وضمنها الهجينة) ومروراً بدعوته لتغيير النظرة الأميركية للسيارة من القوة الى الاقتصاد، وحثّه على الانتقال الى مصابيح إنارة مقتصدة، وتقديمه دعماً مالياً سخياً لمصانع طاقتي الشمس والرياح، وتوقيعه اتفاقية مع كندا عن طاقة الريح وغيرها. المعلوم أن التغيير في استهلاك أميركا للبترول، ينعكس على مجمل مشهد الطاقة وتوازناتها. إنه تحرّك هائل. ويضاف الى ذلك موقفه من الطاقة النووية واعتبارها شكلاً نظيفاً للطاقة. وتقابل فرنسا (أكثر من 80 في المئة من كهربائها من الطاقة النووية) مسعاه، لأن الرئيس نيكولا ساركوزي جعل من الطاقة النووية المتقدمة ركناً أساسياً من برنامجه الانتخابي، ومارسه عبر سلسلة ضخمة من اتفاقيات الطاقة النووية عالمياً. وتشاركت فرنسا وألمانيا مشروع «ديزتيك» الهائل (أكثر من نصف تريليون دولار كبداية) الذي يرمي لاستخراج نصف استهلاك منازل القارة الأوروبية من الشمس التي تستطيع في 4 بلدان عربية في شمال افريقيا. المفارقة ان تلك دول متخمة بالنفظ والغاز، وتفتقر الى الماء الذي سيستخدمه المشروع بكثافة! وترفع الدنمارك التي استضافت «كوب 15» شعاراً واضحاً: الاستغناء عن الوقود الاحفوري. ليس عبثاً ان وزيرة المناخ والطاقة (لنلاحظ الترابط في التسمية) كوني هاغارد، استقالت من رئاسة المؤتمر قبل نهايته بيومين، تحت وطأة المسافة الكبيرة التي ظلت تفصلها عن الدول النامية والعالمثالثية (وضمنها النفطية)، على رغم أنها فاوضتها بكثافة سنتين قبل استضافة بلادها مؤتمر «كوب 15». لقد حدث التغيير. لا جدوى من التفكير بالغد وكأنه لا يأتي أبداً. ولقد حان وقت وضع الفأس على جذع الشجرة، بحسب كلمات السيد المسيح. يجب إعطاء الأولوية (بألف التعريف) لوضع ثروة في التنمية، وإعلاء شأن نقل التكنولوجيا (بالمعنى العميق للكلمة، وليس مجرد شراء الأدوات والآلات والوسائل العملانية) على رأس القائمة في التفاعل إيجاباً مع دول الغرب الصناعي المتقدم. التنمية هي الأساس. نقل التكنولوجيا وسد الفجوة العلمية والتقنية التي تفصل العرب عن العالم وزمنه هما الأساس. واستطراداً، هل تمكن تلك الأمور في ظل الحال المعروف للنظام العربي؟ سؤال يحتاج الى نقاش مستفيض. اضطراب السياسة واجه «كوب15» اضطراب السياسة وعلاقاتها دولياً، أكثر من أي شيء آخر. فمثلاً، مع سقوط الوزيرة هاغارد، بات الانقسام لا مراء فيه بين الدول النامية والمتقدمة، على رغم نجاح الأخيرة في إبراز صوت مجموعة من الدول العالمثالثية (مثل الدول - الجزر)، لكسر ذلك الاصطفاف. ولكن عبثاً. قبيل ختام المؤتمر، قال أوباما: «لننظر الى المستقبل، لا إلى الماضي». ماذا يعني «الماضي» في هذا السياق؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، يجب الإشارة الى ان الدول النامية شكت من إخفات صوتها وحضورها إعلامياً. ربما يكون ذلك مفهوماً في الإعلام الغربي، الذي أثبت مرة أخرى بعد تجارب مثل الحروب في العراق وأفغانستان، أنه ممسوك بالقبضة القوية للمصالح الهائلة للغرب. ولكن من ورّط الإعلام العربي في أزمة النظرة شبه الأحادية الجانب لمؤتمر «كوب 15»؟ من تابع شاشات العرب، لن يفهم إصرار أوباما على «الماضي» ولا لماذا استُحضرت اتفاقية «كيوتو» في المؤتمر الذي يُفترض أنه خصص لاتفاقية مُلزمة في المناخ تحل محل «كيوتو»؟ يتصل ذكر أوباما للماضي بأن الدول النامية حمّلت الدول المتقدمة مسؤوليتها تاريخياً عن تلويث المناخ، وبالتالي طالبت بأن يكون توزيع المسؤولية في حلّ مشكلة المناخ متوازياً مع المسؤولية في التسبّب فيها. فمنذ بداية عصر الصناعة، راكمت التلوث في الغلاف الجوي للأرض، من خلال استعمالها الكثيف للوقود الأحفوري: الفحم الحجري ثم البترول. وفي تلك الفترة، راكمت تلك الدول ثروات هائلة، وقوى ضخمة، وسيطرت على النظام السياسي والاقتصادي عالمياً (بوسائل لم يكن معظمها هدايا وورود)، واكتسبت خبرات علمية ضخمة. لم تدخل الدول النامية على تلك المعادلة الا متأخرة جداً. وإضافة الى معاناتها من تضخم قوى الغرب الصناعي وما بعد الصناعي، عانت الدول النامية أيضاً من آثار التلوّث، ومن دون أن تقدّم الدول الغربية لها يد العون، بل ضاعفت معاناتها أحياناً كثيرة. وفي عصر العولمة، وباستخدام سطوة «البنك الدولي» و «صندوق النقد الدولي» والمساعدات المباشرة، فرضت الدول الغربية برنامجها في الزراعة على العالم الثالث، مثل فرض الزارعة التخصصية بدل التركيز على زراعة المواد الغذائية. وأدى ذلك الى مفاقمة أزمة الغذاء. وفي السنة الفائتة، اعترف الرئيس ساركوزي، في اجتماع استهل ظهور مجموعة العشرين ان الدول الغربية أخطأت في مسألة نشر الزراعة التخصصية. وقال: «ارتكبنا هذا الخطأ لمدة ثلاثة عقود». هل أعطت دول الغرب ما يكفي للتعويض عن «الخطأ»؟ حتى انها لم تقبل لحد الآن بخفض المعونات لمزارعيها! وفي «كوب 15»، تحدث أوباما أيضاً عن الشفافية. ولا تعكس هذه الكلمة سوى غياب الثقة بين الدول النامية والمتقدمة في المناخ (والأموال؟)، المرتكز الى وقائع التجربة السيئة مع الدول الغنية. فمع اتفاقية «كيوتو» (1997) المُلزمة، جرى تحديد الدول التي يجب ان تخفّض بقوة انبعاث التلوث منها، مثل الولاياتالمتحدةوكنداوروسيا والاتحاد الأوروبي. وسرعان ما سحب الرئيس جورج دبليو بوش توقيع سلفه الرئيس بيل كلينتون عن تلك الاتفاقية. وتلكأت روسيا في إقرارها حتى عام 2005. ولم تلتزم كندا بها إطلاقاً. وفشلت اليونان كلياً في تحقيق التزاماتها حيالها. ولم تحقق دول الاتحاد الاوروبي ما يلزمها به بروتوكول «كيوتو»، بل تفاوت سجلّها في هذا المجال! أي ثقة قد تأتي مع هذه التجارب؟ تنوّعت طرق تغطية وقائع «كوب 15»، إذ خصص له موقع رسمي متعدد اللغات (شملت العربية)، إضافة الى «بلوغ» ضخم blogs.cop15.dk وحضر على الشبكات الاجتماعية الافتراضية «تويتر» و«فايسبوك»، وحاز موقعاً على «يوتيوب» أُفرد للأشرطة التي يصنعها الجمهور. ومع ذلك غلب على الإعلام الميل لتقديم رؤية الدول الصناعية في المؤتمر. هل ترك جمهور العالم الثالث أشرطة على «يوتيوب» بحيث ان معظم الأشرطة التي تناقلتها الشاشات كانت من الوجهة الأخرى، أم أن «الهوة الرقمية» بين الدول الغنية والفقيرة لعبت دورها في هذا الأمر؟