انطلقت التحضيرات للدورة المقبلة لمهرجان الجاز الذي ينظم سنوياً في حزيران (يونيو) في موقع شالة الأثري على أطراف العاصمة المغربية الرباط. وقبل أقل من شهرين، كان المشرفون على المهرجان في المفوضية الأوروبية بالرباط قد أنهوا تفاصيل آخر جزء في دورة 11-15 حزيران (يونيو) الماضي، وهي صرف عائدات المهرجان في أعمال اجتماعية لفائدة مشروعين لجمعيتين محليتين. تسربت موسيقى الجاز بتدرج بطيء، لكن بثقة إلى الذوق الفني المغربي، ثم وجدت لنفسها موطئ قدم راسخ اليوم في شتى المدن، وأضحت موعداً موسيقياً متميزاً تنتظره شريحة متزايدة من عشاق الموسيقى في مختلف أنواعها. ويعد مهرجان شالة للجاز، وعمره اليوم 14 سنة، أحد تلك المواعيد التي تعلن لسكان العاصمة بداية موسم الصيف على إيقاعات موسيقية عالمية ومحلية، وتعدهم أيضاً بمتعة الاستماع والتأمل في أجواء خاصة لا يمكن أن توفرها غير منصة في قلب قصبة شالة الأثرية ذات الموقع الاستراتيجي المميز. من فوق الربوة العالية المشرفة على نهر أبي رقراق، وبين الأسوار التاريخية التي تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد يقف مهرجان شالة للجاز مصراً على الامتزاج بتاريخ وجغرافيا المكان. موسيقى الجاز الأوروبية ذات الأصول الأميركية الأفريقية أصبحت لها جذور مغربية، بعدما تمازجت مع أنواع معينة من الأنغام المحلية، وعلى رأسها موسيقى «كناوة» ذات الأصول الأفريقية، وموسيقى «الهول» الصحراوية، وموسيقى الملحون الأندلسية المغربية. فهل حن الجاز إلى أصوله الحقيقية كما خلد حنينه منذ انطلق في أميركا مع جحافل الأفارقة الذين رحلوا قسراً عن أوطانهم في إطار تجارة العبيد في القرن السابع عشر؟ الجاز الأوروبي - الموسيقى المغربية إنه شعار مهرجان شالة للجاز، نجده مجسداً في كل دورة من دوراته السنوية. وخلال الدورة الأخيرة، جسده على سبيل المثال الفنانان الأخوان علي وحمزة السويسي، عازفا الآلات الإيقاعية والجهير (الباس) المهتمان بموسيقى الجاز. فقد ألف الأخوان سويسي العديد من الألحان الموسيقية المستوحاة من الموسيقى المغربية. وهناك أيضاً الفنان المغربي توفيق عمار، عازف البيانو. موسيقاه قريبة من الجاز، لكن سمتها المغربية أكثر وضوحاً. بيد أن أقوى لحظات هذا التمازج الفني جمعت بين عبد اللطيف المخزومي، أحد عمالقة موسيقى كناوة، والإسباني المعروف من أصل كوبي، عمر سوسا الذي يمزج بين الجاز الأفريقي والكوبي والموسيقى العالمية. على مدى خمسة أيام صدحت موسيقى متنوعة من توقيع عشر مجموعات أوروبية من 14 جنسية، وخمس مغربية، وجدت جميعها في موسيقى الجاز مصدر إلهام وإبداع وتآلف لا ينضب، فقدم عناصرها، وعددهم يفوق أربعين فناناً، أفضل إبداعاتهم المستلهمة من تراث بلدانهم الثقافي والموسيقي، ومزج بعض موسيقيي الجاز الأوروبيين وموسيقيين مغاربة، في لقاءات تعاون قصيرة، تجاربهم وأبحاثهم الموسيقية في انصهار تام حاز دوماً على إعجاب الجمهور. التعارف والتقارب والتفاهم، كلها أشياء ممكنة عبر هذا الحوار الموسيقي الذي «يسمح بصد الأحكام المسبقة والعقول المنغلقة على التنوع، ذلك أنه، فقط، عبر إسقاط حواجز الجهل يمكن لنا الانفتاح على الفضول إزاء الآخر، وعلى الحاجة إلى المعرفة»، يقول السفير برونو ديتوماس، رئيس المفوضية الأوروبية بالرباط. أعمال اجتماعية بفضل فن الجاز سحر الموسيقى يكمن في اختراقها الحدود أياً كان نوعها، ومهرجان الجاز بهذا المعنى فتح لنفسه قنوات يعبر منها نحو جمهور خاص لم تتح له فرصة القدوم إليه في شالة، أو ربما لن تتاح له يوماً ما تلك الفرصة لظروفه الصعبة، ومن هنا أوجد المهرجان بعده الاجتماعي التضامني. «نريد الوصول إلى قلوب الناس أيضاً»، يقول جيروم كاسيي، المستشار الثقافي بالمفوضية الأوروبية بالرباط. ودأب المهرجان في السنوات الأخيرة على الانتقال، عبر لقاءات موسيقية مرتجلة وتلقائية، إلى أماكن غير اعتيادية، بعضها لا يخطر على بال: سجن، مستشفى للأمراض النفسية والعقلية، مدرسة للسيرك خاصة بالأطفال المعدمين. علاوة على ذلك، صار للمهرجان في السنوات الأخيرة تقليد صرف عائدات دوراته، وإن كانت متواضعة، في مشاريع اجتماعية. هكذا وصلت آثار الموسيقى السحرية بطريق غير مباشر إلى جمهور من نوع خاص. مداخيل دورة 2009 صرف جزء منها لتحسين استقبال الأشخاص المسنين في مركز اجتماعي قريب من موقع المهرجان، وجزء آخر لتوزيع حقائب وكتب وأدوات مدرسية على 250 طفلاً ينتمون إلى العالم القروي في مدينة تمارة المجاورة. لم يبخس مدير مركز الأشخاص المسنين، هشام معروف، مساهمة المهرجان، فهي على تواضعها ساهمت في تجهيز مطبخ المركز بمعدات حديثة أثرها واضح على تحسين جودة خدمة إطعام النزلاء، وعددهم 48 شخصاً. جمعية «أطفال أوفال» لدعم تعليم الأطفال القرويين الذين يعيشون تحت عتبة الفقر، اقتنت بالمساهمة المادية للمهرجان حقائب مدرسية تشمل أدوات وكتب الموسم الدراسي الحالي. وثمن محمد ميسوم، نائب رئيس الجمعية هذا الدعم، وقال إن «هذه المساهمة المنشودة كثيراً من قبل الأهالي خففت نفقات الدخول المدرسي عليهم». وتسعى المفوضية الأوروبية بالرباط عبر مبادراتها الثقافية إلى دعم أعمال اجتماعية ذات أولوية في إطار التعاون مع المغرب، لأن الثقافة برأي كاسيي «وسيلة للتنمية الاجتماعية، ليس فقط عبر الانفتاح الذي تحدثه على العالم، وإنما أيضاً عبر رسالة الحوار والتفاهم بين الشعوب والتي تعتبر خيطها الناظم»، ومهرجان شالة للجاز شاهد حي على الشراكة الثقافية الأورومتوسطية، ومعلم فني خاص للتواصل وحوار الحضارات، بحسب منظميه وهم المفوضية الأوروبية بالرباط مع السفارات والمعاهد الثقافية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بشراكة مع وزارة الثقافة وولاية الرباطسلا. * أوروبا جارتنا مشروع إعلامي مشترك متعدد الوسائط بين «الحياة» وتلفزيون «ال بي سي» وصحيفة «لوريان لوجور» الناطقة بالفرنسية، يموله الاتحاد الاوروبي ويهدف إلى تسليط الضوء على مشاريع الاتحاد وبرامجه في منطقة حوض المتوسط عبر تقارير تلفزيونية ومقالات صحافية تنشرها «الحياة» اسبوعياً وتحمل علامة المشروع. المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد الاوروبي. للاطلاع زوروا موقع: www.eurojar.org