لا يقول «حزب الله»، في وثيقته السياسية (30 تشرين الثاني / نوفمبر 2009) الأولى له منذ الاعلان عن تأسيسه قبل حوالى ربع قرن، إلا ما كان ينفيه بقوة طيلة الأعوام الماضية... من أن لسلاح الحزب وظيفة لبنانية داخلية تتعلق بتغيير نظام الحكم اللبناني، فضلاً عن، بل وتحت غطاء، مقاومة الاحتلال الاسرائيلي وتحرير الأراضي اللبنانية. واذا كانت الوثيقة قد تحدثت مطولاً، كما كان كلام الحزب على الدوام، عن «الرأسمالية المتوحشة» في جانب منها وعن «الهيمنة الغربية» و «التسلط» الأميركي – الاسرائيلي على العالم في جانب آخر، فإن قراءة متأنية للوثيقة تعفي من بذل أي جهد لكشف الغطاء عن «الأهداف الحقيقية» من تأسيسه أصلاً في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وحتى من نعته ب «حزب المقاومة» لتحرير الأرض المحتلة في لبنان أولاً أو في أي منطقة أخرى على الساحتين العربية والاسلامية في ما بعد. ولعل الصدفة التي هي «خير» من ميعاد، التي تزامن فيها صدور كل من الوثيقة والبيان الوزاري ل «حكومة الوحدة الوطنية» التي يشترك فيها الحزب بوزيرين، تكشف بدورها هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للتأويل من جهة أو للشك من جهة ثانية. اذ مع أن كلاً منهما صدر بعد «مخاض طويل»، فاستغرق البيان ما يقرب من ثلاثة أسابيع بعد شهور من شد الحبال حول التأليف، بينما استغرقت الوثيقة أربعة وعشرين عاماً بالتمام والكمال، فقد برز بجلاء أنهما يبدآن في الواقع – وينتهيان بالضرورة – من ضفتين متقابلتين، وحتى متعارضتين، على رغم ما قاله أصدقاء الحزب في توصيف الوثيقة بأنها تعبر عن «اللبننة» المستجدة للحزب ولخطابه السياسي. بداية، ليس نعت وثيقة الحزب ب «اللبننة» سوى تأكيد بأنه لم يكن قبلها لبنانياً لا بالقول ولا بالفعل، كما ليس ما أوردته الوثيقة عن «ولاية الفقيه» كعقيدة لا تتعارض – كما قالت – مع واقع «أن لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية» سوى كلام توفيقي بدوره... ربما لمناسبة الصدفة اياها، وربما انطلاقاً من نظرية التقية المعروفة في عقيدة الحزب كما في ممارساته السياسية محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. وبغض النظر عن القديم، الباقي بالقوة في البيان الوزاري في ما يتعلق بحق «لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته» في استعادة وتحرير ما تبقى من الأراضي اللبنانية المحتلة، واعتراض بعض الوزراء على العبارة، ثم عن حديث الوثيقة عما تصفه ب «المزاوجة» بين المقاومة التي «تدافع عن الوطن» والجيش الذي يقوم ب «حماية الوطن»، وعن الالتباس المقصود في محاولة ايجاد فارق لغوي بين معنى كلمة «دفاع» المقاومة عن الوطن وكلمة «حماية» الجيش لهذا الوطن، فلا حاجة الى كبير جهد لاكتشاف أن بين الخطابين بحراً من التباينات وحتى التناقضات ليس بالنسبة الى حاضر البلد بل والى مستقبله كذلك. ذلك أنه كيف يمكن التوفيق بين «الديموقراطية التوافقية»، التي يصر الحزب على أنها أسلوب الحكم الممكن الوحيد ما بقيت الطائفية السياسية في البلاد، وبين اعلان وثيقة الحزب أن «المقاومة باقية» ما بقي التهديد الاسرائيلي للبنان وبقيت الأطماع بثرواته الطبيعية؟!، وأين هو «التوافق» الذي تفترضه «الديموقراطية التوافقية» في هذا المجال اذا كان نصف اللبنانيين على الأقل يرفض مجرد ايراد كلمة «المقاومة» في البيان الوزاري؟!، أم أن في الأمر هنا رغبة أخرى ب «المزاوجة» (تهرباً من كلمة «الازدواجية») بين الديموقراطية والتوافق؟!. بل وماذا تعني بعد ذلك كله الفقرة (ي) من مقدمة الدستور التي تنص على «لا شرعية أية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، وكان الحزب قد تغطى بها لتبرير استقالة الوزراء في العام 2006، اذا كان نصف من يعنيهم ميثاق العيش المشترك هذا يعترضون على سلاح «حزب الله» علناً ويجدون فيه نقيضاً ليس للميثاق والعيش المشترك فقط وإنما لإمكان قيام الدولة قبل ذلك؟!. وفي السياق ذاته، كيف يمكن في حالة «الديموقراطية التوافقية» هذه، وما يراه الحزب من افتراض قيام حكومات وحدة وطنية دائمة في ظلها، التوفيق بين مثل هذه الديموقراطية وبين مفهوم «تبادل السلطة» الذي تقوم عليه الانتخابات النيابية في الديموقراطيات البرلمانية التي يعتبر لبنان في عدادها؟!، بل لماذا اذاً تكون انتخابات نيابية أصلاً، وحتى بلدية أو نقابية أو مهنية أو قطاعية الخ...، اذا كان لمفهوم «تبادل السلطة» أن يبقى مجرد شعار فارغ أو عبارة من دون معنى؟!. ثم ماذا يعني، في الواقع العملي، اعلان الوثيقة السياسية للحزب «الرفض المطلق لأصل ومبدأ خيار التسوية مع الكيان الصهيوني»، وتأكيد أن موقف الحزب هذا «ثابت ونهائي ودائم وغير خاضع للتراجع أو المساومة، حتى لو اعترف العالم كله بإسرائيل»، في الوقت الذي يشترك في حكومة بلد، هو لبنان، اشترك في مؤتمر مدريد للتسوية في المنطقة من جهة ثم انه استضاف من جهة ثانية قمة عربية في 2002 أقرت «مبادرة السلام العربية» التي تقوم على مبدأ مبادلة الأرض بالسلام، فضلاً عن النص فيها على الاعتراف بإسرائيل اذا ما انسحبت من الأراضي العربية المحتلة كلها؟!. أكثر من ذلك، ما هو موقف الحزب من رئيس جمهورية لبنان (البلد الذي يريده الحزب واحداً موحداً، أرضاً وشعباً ومؤسسات، وسيداً حراً مستقلاً، حاضراً في معادلات المنطقة... ومساهماً في صنع الحاضر والمستقبل) وقد توجه الى الولاياتالمتحدة، مصحوباً بوزير الخارجية، ممثل حليفه حركة «أمل» في الحكومة، للبحث، من بين أمور أخرى، في قضية التسوية في المنطقة؟!، ثم على افتراض تحريك مسألة المفاوضات، على أساس مبادرة السلام العربية، هل يخرج ممثلا الحزب من الحكومة احتجاجاً على ما تصفه وثيقته ب «عملية التسوية الوهمية الظالمة المسماة زوراً وبهتاناً عملية السلام»؟!، وماذا سيكون الرأي حينها في «الديموقراطية التوافقية» - أساس الحكم، بحسب الوثيقة - فيما الحزب غير ممثل في الحكومة؟!. تلك بعض الأسئلة فقط، من دون أن يعني ما سبق أن لا أسئلة أخرى تطرح نفسها بقوة في الوثيقة، وفيها كلها إشارات لا تخطئها العين الى أن الهدف في نهاية المطاف هو تغيير نظام الحكم في لبنان وليس أي شيء آخر. ولا مبالغة في القول إن اللهجة «التوافقية» التي استخدمها الحزب في وثيقته الجديدة لم تنفع في التغطية على العدد الكبير من الالتباسات، بل والتناقضات، التي كشفت عنها الوثيقة من جهة وممارسات الحزب العملية على الأرض من جهة ثانية. ربما كان الأسلم لقيادة «حزب الله» أن تبقي على وثيقتها السياسية السابقة، أو ما وصف ب «الرسالة المفتوحة» التي صدرت قبل أربعة وعشرين عاماً، من دون تعديل أو تبديل، لأنها تكون منطقية مع نفسها وأكثر صدقاً في مخاطبتها الآخرين سواء في لبنان أو في العالم الخارجي. في حينه، تحدث الحزب صراحة عن مشروعه لإقامة الدولة الاسلامية في لبنان كما أنه حدد أعداءه بأنهم «اسرائيل وأميركا وفرنسا وحزب الكتائب اللبناني»، فضلاً عن وصفه أميركا بأنها «أم الخبائث والمصائب»، وبأن اسرائيل «يجب أن تزول من الوجود»، وبأن على الكتائبيين اللبنانيين – شركاء الحزب في الوطن، أياً كان الرأي في مواقفهم السياسية، أن يرضخوا «للحكم العادل... فيحاكموا جميعاً على الجرائم التي ارتكبوها بحق المسلمين والمسيحيين، بتشجيع من الولاياتالمتحدة واسرائيل». * كاتب لبناني