«صدام حسين مرّ من هنا»، هكذا قال غسان شربل، في كتابه الجديد (دار رياض الريس). صدام حسين ما زال راسخ القدم في العراق، هكذا تقول كل الوقائع المتتالية! عنوان الكتاب له ما يماثله على جدران المدن التي أبتليت بحروبها الأهلية. العاصمة بيروت مثل دامٍ، فقد نقشت الميليشيات على جلدها أسماء وأسماء، كانت حين تمر، تترك بصمات الخراب، شواهد على عبورها المقيت... والمميت أيضاً. لكن صدام حسين احتفظ بعبور مختلف، لم يقرأه من أتى من بعده، وسيظل عسيراً على الوضع العراقي، الحالي، أن يجيد القراءة في كتاب «الانتقال» من عهد إلى عهد، حتى يتسنى للعراقيين أن ينتقلوا فعلاً، من وضع قديم إلى وضع يكون جديداً، بكل ما للكلمة من معنى حديث. في سياق القراءة، لم يكن مقدراً لحازم جواد، البعثي «المثالي» العتيق، إلاّ أن يتلعثم، وهو أبدى ندماً على ممارسات دامية، ارتبط فعلها بأهل مسيرته، لكنه فضّل أن يلقي أثقال المرحلة القاسية على الأشخاص، وعلى الممارسة، واحتفظ لنفسه ولعقيدته بالصفاء، ليقول إنه «كان بالإمكان أفضل مما كان...» لولا تدخل أيادي الشخصنة والانحراف والابتعاد عن المنهج البعثي القويم! ذاكرة صلاح عمر العلي، لا تدفع شوطاً على طريق المراجعة، وإن كان في الحديث إشارات مهمة، من قبيل: انتصرت العشيرة على الحزب، وبدأت الكارثة، هذه التي بدأت، حسب صلاح العلي، بتعيين صدام حسين نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة! ماذا لو كان المنصب من نصيب قبيلة أخرى؟ هذا ما لا يثيره العلي، أي إنه لا يرمي البنية العشائرية، الفاعلة والمؤثرة في البنية العراقية، بوردة نقدية. نزار الخزرجي، رئيس الأركان السابق، أقيل لأنه قال «سنخسر الحرب»، ووجوده لم يعرقل اتخاذ القرار باجتياح الكويت، بل هو كان آخر من يعلم باحتلال البلد الجار، بعد حصوله! وفي مثل مقامه، كان وزير الدفاع عبد الجبار شنشل! كان القرار في مكان آخر، في يد الفرد، ابن العشيرة، التي لم تكن صاعدة، بل عملت على «عشرنة حزب البعث وقبلنته»، وكان الحزب طيعاً، وقابلاً للتحول والارتداد إلى أصوله الاجتماعية التكوينية، لأن الانتساب إلى الحديث والجديد، الذي يخالف أصول النشأة، كان ولا يزال، حديث قشرة حزبية نخبوية... لها، خارج في العراق، أقران وأنداد وحلفاء وامتدادات! يخرج أحمد الجلبي، في طريقة تقديمه لنفسه، وفي سرده «لنضاله»، من أجل تغيير النظام القائم في بغداد، عن جادة المرارة والأسف... والندم، التي تسكن حنايا كلام من سبقه. يدلي بمعلومات وافية، وبتفاصيل كثيرة، الادعاء فيها: الاستقلالية، والحقيقي منها: الإقامة في دوائر السياسة الأميركية، والضياع في دهاليز مؤسسات صناعة القرار فيها. لم تكن السي. آي. إي. تخذله، بل كانت تستعمله، ولم ينصره الكونغرس، بل استخدمه، ولم تأخذ وزارة الدفاع برأيه، بل اجتازت «مرور الوقت»، به وبتشكيلات أخرى، مشابهة «لمؤتمره الوطني»... لكن الجلبي ما زال يتحدث بلغة: أردت، ورفضت، وأعلنت، وفرضت... الخ. تفوح من الكلام رائحة الإدعاء، حتى لا نقول «جنون الدور»، وتفضح الحديث نكهة التواضع المرائية، إذ من قال، أو من يصدق، أن الجلبي لم يكن يريد شيئاً لنفسه؟ هو الذي بدا وكأن العراق كله لا يكفيه! لقد أراد غسان شربل أن يستريح في واحة السرد، وترك لغيره أن يضرب في تيه التأريخ، لكن السرد يلقي على القارئ عبء استكناه أسراره، ونبش مضامينه، ونفض الصمت عن المسكوت فيه. قدّم صدام حسين مثالاً مدوياً عن فشل الشمولية، ومزّق الأردية التي يمكن أن تختبئ وراءها، دينية كانت أو دنيوية. لقد انطوت شمولية البعث، ومثلها كل الشموليات، على الفردانية، وعبادة الشخص، وتعطيل المؤسسات، وإزاحة المجتمع، ونهب المال العام، والتصرف بالمصير البشري، والتحكم بأعمار المواطنين. سيرة الإعدامات، التي ركَّز عليها المتحدثون، هي سيرة كل الثورات «التي أكلت أبناءها»، وشراء الذمم واستخدام الرشوة، نهج ثوري عربي بامتياز، وحياكة الدسائس، ورفع «الوضيع» والحط من شأن «الكريم»، مأثرة قبلية عربية، لم يضع حداً لها دين، ولا نجح في مواجهتها حزب، بل هي نجحت في احتواء كل العقائد، وما زالت تشكل القاعدة الاجتماعية لكل حكم، والغطاء الشرعي له في الوقت نفسه. مع صدام حسين، ومع سواه، كلما ضاقت فسحة الوعود، كلما تقلصت قاعدة النظام، لذلك يصير الخوف هو العلاقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم. لم يعرف لصدام حسين مكان، كان كثير التنقل وسريّ الحركة، لأنه خائف. ولم تعرف للشعب وجهة تغيير، لأنه خائف أيضاً. الموت هو الطرف الآخر من المعادلة. يقتل من يعترض، ويعدم من يخرج عن خطوط «القدر المرسوم»، ومتى أتيح للقتيل أن يفلت من جلاده، يصير قتّالاً وفتاكاً، على شاكلة قاتله. في مرحلة صدام، قتل الفرد مجتمعه، ما بعد صدام فتك المجتمع بالمجتمع، هذا مع الاحتفاظ بكل الاستدراك الذي تثيره كلمة مجتمع، في الوضعية العراقية، وفي كل الأوضاع العربية. ثمة قاتل آخر في العراق، جاء على صهوة الادعاءات الديموقراطية، وشكلت رأس حربته الولاياتالمتحدة، علمنا سابقاً، والآن، وسنعرف لاحقاً، أن العراق لم يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وأكد غسان شربل على لسان بعض رواته، أن البلد المحاصر لم يكن قادراً على امتلاك السلاح النووي. لكن ما أكده أحمد الجلبي، خصوصاً، هو أن قرار «التدمير الشامل» للعراق، كان يحبو في الكواليس الأميركية، والبريطانية إلى حدٍ ما، ثم شبّ وترعرع وقفز من فوق «سور حديقة البيت»، بعد الغزوات «المباركة» لتنظيم القاعدة، وفي سياق السياسات الحمقاء لصدام حسين، وبالاستناد إلى الحماسة الطائشة، لأطياف واسعة من المعارضة العراقية. دُمّر العراق، وسيطول الكلام على دماره، مسدس صدام حسين ما زال موجهاً إلى رؤوس العراقيين، ومدافع الديموقراطية، هزمت المسار المدني المحتمل للبلد، وانهزم مع المسار، التأسيس الطويل لحقبة من الانفتاح الصحي على «الآخر»... مرّ صدام، وما زال الأميركيون يمرّون... وما زالت الجدران العراقية تحمل ثقوب قذائفهم العاثرة. * كاتب لبناني