على رغم تفوقها العسكري والتكنولوجي غير المحدود تقف الولاياتالمتحدة عاجزة عن التعاطي مع دولة فقيرة وفاشلة مثل أفغانستان. ومعضلة كهذه لا يمكن تفسيرها إلا من خلال فهم التجربة العسكرية الأميركية خلال النصف الثاني من القرن العشرين بوجه عام. فقد خاضت الولاياتالمتحدة الكثير من الحروب والنزاعات العسكرية، لكنها لم تفلح مطلقاً في إعادة بناء الدول التي سقطت بسبب تلك الحروب، وذلك باستثناء حالتي اليابان وألمانيا اللتين تمتلكان ظروفاً خاصة لا يمكن تعميمها على غيرهما من الدول. فقد دخلت الولاياتالمتحدة الحرب الكورية بين الشمال والجنوب ولم تفلح في إبعاد كوريا الشمالية عن المعسكر الشيوعي حتى يومنا هذا، وذلك رغم التحولات الجذرية التي شهدها النظام الدولي طيلة العقود الخمس الماضية. كما دخلت واشنطن حرب فيتنام وخرجت منها بعارٍ أخلاقي وسياسي لا يزال يلاحق أجيالاً من الأميركيين إلى الآن. ولم تفلح أيضاً في جذب فيتنام باتجاه نموذجها الإيديولوجي والسياسي. ثم دخلت حرب الخليج الثانية ولم يكن لها همّ سوى دعم وجودها في منطقة الخليج العربي لأطول فترة ممكنة. ثم خاضت حرب أفغانستان انتقاماً لكبريائها ولمواطنيها الذين قتلوا في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأخيراً دخلت أميركا العراق في حرب مضلِلّة ستظل نقطة سوداء في سجل الولاياتالمتحدة خلال القرن الحادي والعشرين. ولسوء الحظ فإنه في كل مرة كانت الولاياتالمتحدة تخوض صراعاً عسكرياً، فإنها لم تمتلك الخطط السياسية والتنموية التي قد تمكنها من إعادة بناء هذا البلد أو ذاك كي يصبح نموذجاً يُحتذى به في محيطه الإقليمي. وغالباً ما كان الانسحاب الأميركي من هذا البلد أو ذاك يرتبط بالحسابات السياسية الداخلية وبمراكز المتنافسين على السلطة في الولاياتالمتحدة، وليس بالحسابات الاستراتيجية أو العسكرية الطويلة المدى. وهو ما جرى حرفياً قبل أيام حين أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما عزمه الانسحاب من أفغانستان بحلول منتصف عام 2011، أي بعد عقد كامل من التورط العسكري الثقيل هناك. وذلك ليس فقط بسبب سوء الأوضاع الأمنية وانعدام القدرة على إيجاد حلول جذرية لمعضلة أفغانستان، وإنما أيضاً بسبب ارتباط ذلك بمستقبل اوباما السياسي وقدرته على إقناع الأميركيين بأحقيته في الحصول على دورة رئاسية جديدة. كان أوباما يأمل في صنع إنجاز تاريخي، يميزّه عن سلفه جورج دبليو بوش، الذي بدأ المهّمة ولم ينجزها، فقرر إرسال ثلاثين ألف جندي إضافي كفرصة أخيرة من أجل القضاء على تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان». بيد أنه لا يملك حتى الآن رؤية مقنعة لمآلات الوضع بعد الانسحاب من أفغانستان الذي قد يتم بحلول تموز (يوليو) 2011 حسب تصريحات أوباما الأخيرة. ما يؤرّق أوباما الآن ليس تحقيق الأمن والاستقرار في أفغانستان، فتلك مهمة ثقيلة يدركها الجميع بمن فيهم الأفغان أنفسهم، وإنما تحقيق أي نصر هناك ولو ضئيل قد يمكّنه من إنجاز هدفين، أولهما توفير مبرر مقنع للأميركيين بإمكانية الانسحاب من أفغانستان بعد عشر سنوات عجاف. وثانيهما، تحقيق إنجاز معنوي بالقبض على اسامة بن لادن أو أيمن الظواهري قد يُستخدم كورقة في السباق الرئاسي المقبل. وهو ما يمكن قراءته بشكل واضح في قرار أوباما الأخير بشأن أفغانستان. فقد أحدثت نتائج الحرب في أفغانستان شرخاً عمودياً داخل المجتمع الأميركي ونخبته من الجمهوريين والديموقراطيين ربما لم يحدث منذ حرب فيتنام في أواخر الستينات من القرن الماضي. وهو ما حاول أوباما معالجته بطريقته الخاصة. فهو من جهة حاول تهدئة مخاوف الراغبين في القضاء على تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان»، خصوصاً من الجمهوريين، من خلال زيادة عدد القوات الأميركية إلى حوالى مئة ألف جندي في أفغانستان. في حين حاول أن يحدد موعداً، ولو مبدئياً، بالانسحاب من هناك كي يهدئ روع الديموقراطيين وغيرهم من وجود أميركي طويل المدى. وصيغة كهذه هي أقرب الى الهروب من استحقاقات مواجهة الوضع الحقيقي في أفغانستان. فمن جهة أولى، لن يفيد مجرد إرسال 30 ألف جندي (قد يُضاف إليهم 10 آلاف من الدول المشاركة الاخرى) في إنهاء تمرد حركة «طالبان» وتمكين نظام حامد قرضاي الهشّ من بسط سيطرته على كافة أقاليم الدولة الفقيرة. ومن جهة ثانية، يبدو إرسال مزيد من القوات دليلاً على مدى محدودية الخيار العسكري فى حل الأزمة الأفغانية وليس العكس. فعلى مدار تسع سنوات تقريباً فشل الوجود العسكري الأجنبي في تحقيق أية انجازات جيوبوليتيكية أو ميدانية مع «طالبان»، بل زادت هذه الأخيرة من مساحة سيطرتها حتى وصلت حديثاً إلى نحو 70 بالمائة من الأراضي الأفغانية وأحياناً لم تفصلها عن العاصمة كابول سوى أميال قليلة. ومن جهة ثالثة، لا تبدو الدول الغربية، حكومات وشعوباً، متحمسة لإرسال مزيد من القوات لأفغانستان، وهو إن حدث سيكون لفترة قصيرة جداً وبأعداد قليلة خاصة في ظل انعدام خطة سياسية لمعالجة الأوضاع هناك. الآن يواجه أوباما مأزقاً فريداً من نوعه، ففي الوقت الذي يرغب في إنهاء «الكابوس» الأفغاني والانسحاب بأسرع وقت ممكن، فإنه مُطالب بأن يكون ثمن الانسحاب قد تحقق وهو إما القضاء على أسامة بن لادن وشبكته أي «إنجاز المهمة»، أو تقوية شوكة قرضاي فى مواجهة «طالبان» حتى يتحقق الانسحاب الآمن. وهي مهمة ليست يسيرة على كل حال، ولربما اختار أوباما عام 2011 موعداً لبدء سحب قواته على أمل إعطاء فرصة أخيرة لجنوده واستخباراته من أجل القضاء على تنظيم «القاعدة». ومأزق كهذا تهيمن عليه الحسابات الداخلية الأميركية من دون النظرة الاستراتيجية الطويلة المدى. فضلاً عن ذلك فإن انسحاب أوباما من أفغانستان، إن تحقق، لن يكون شبيهاً بأي حال بذلك الذي حققه سلفه جورج بوش في العراق الذي خدمته ظروف ذاك البلد ومكّنته من إعادة تأهيل مئات الآلاف من العراقيين في صفوف الجيش والشرطة، ناهيك عن توافر قدر من الرغبة السياسية لدى مختلف الفصائل العراقية في بناء نظام سياسي جديد ليحل محلّ النظام البعثي. وكم كان مفارقاً ألا تحتوي استراتيجية أوباما الجديدة على إشراك الأطراف الإقليمية في حل الأزمة الأفغانية، وهي مسألة تبدو حتمية في ظل تشابك المصالح والأهداف في هذه الأزمة. ومن المدهش أن أياً من الدول المجاورة لأفغانستان مثل إيران والصين والهند وروسيا وباكستان لا تقدم دعماً مادياً أو عسكرياً للقوات الأجنبية الموجودة في أفغانستان. ومن بين 42 دولة تشارك تحت مظلة حلف «الناتو» لا توجد دولة مجاورة لأفغانستان يمكنها إرسال قوات عسكرية الى هذا البلد. وللحق، فإن مأزق أوباما في أفغانستان لا ينقطع بحال عن مأزق الولاياتالمتحدة بوجه عام في منظومة النظام الدولي الراهن. وهو مأزق ساهمت فيه السنوات التسع الماضية بكل أخطائها وخطاياها. ويمكن تلمّس الشعور العام بالمأزق التاريخي الذي تعيشه الولاياتالمتحدة من خلال التساؤلات التي يطرحها الآن رموز النخبة الأميركية حول مستقبل القوة الأميركية في القرن الجديد، سواء من حيث النوع أو القدرات. والجميع ينطلق من سؤال واحد وهو: ما هي مصادر القوة التي يمكن أن تحفظ للولايات المتحدة دورها وتأثيرها وبقاءها ضمن خمس قوى عالمية أخرى خلال القرن الحالي؟ فالبعض يرى في حالة أفغانستان نهاية تراجيدية لمفهوم القوة الكلاسيكية الذي احتفظت به الولاياتالمتحدة طيلة القرن الماضي. وهي القوة بنوعيها «الصلب والناعم» التي حققت للولايات المتحدة تفرداً عالمياً نادراً انطلاقاً من ثلاث ركائز أساسية هي: القوة الاقتصادية، والتميز الصناعي، والتفوق المالي والتكنولوجي. أما الآن فقد فقدت الولاياتالمتحدة رصيداً مؤثراً من كفاءة قوتها الصلبة (العسكرية والاقتصادية) ونفاذ قوتها الناعمة (المالية والتكنولوجية). من جهة أخرى فإن ثمة فروقاً واضحة بين حروب القرنين العشرين والحادي والعشرين التي خاضتها الولاياتالمتحدة، ففي الأول كانت الحروب مجرد تفريغ «إيديولوجي» للصراع العالمي البارد بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، وذلك عوضاً عن تناطح القوتين العظميين مباشرة. أي أنها كانت حروب «تيك أواي» تستهدف مجرد استعراض النموذج الأميركي عسكرياً وتكنولوجياً من دون التورط في صراعات نوعية (مذهبية أو عرقية). أما حروب القرن الجديد فليست مجرد مواجهات عسكرية مع أقطاب دوليين مناوئين للنفوذ الأميركي، وإنما بالأحرى صراعات أكثر تعقيداً وحبلى بكافة أنواع التوتر الديني والإثني والمذهبي، كما هي الحال في العراق وأفغانستان. وصراعات كهذه لا يمكن حلها فقط من خلال استخدام الآلة العسكرية بل هي في حاجة إلى مهارات سياسية وتفاوضية كتلك التي كان يتمتع بها الاستراتيجيون الكبار أمثال هنري كيسينجر وزبيغنيو بريجنسكي، وهذه نقطة ضعف كبيرة في الفريق المعاون لأوباما الذي لا يتمتع بأية مهارات استراتيجية قد تمكنه من وضع حلول عملية للأزمات التي يواجهها، وهو ما ينبئ باستمرار الأخطاء الأميركية فى المستقبل القريب. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا. [email protected]