لم تنفع شهور المفاوضات والمناكفات والشروط والشروط المضادة، ولم تنفع الثقة البرلمانية غير المسبوقة، في ترجمة معنى حكومة الوفاق والتوافق في لبنان. وأظهرت مناسبات عدة، شاءت الصدف حصولها بعد نيل الحكومة الثقة، أن ثمة استمراراً لاعتبار ان ثمة لبنان رسمياً، قيد الاختبار والامتحان الدائمين وأن هناك زعامات لبنانية غير معنية بصورة الدولة الواحدة، إن لم يكن عملها يستهدف هذه الصورة. كما أظهرت هذه المناسبات أن ثمة سعياً حثيثاً لوضع الدولة اللبنانية أمام معضلة علاقاتها الخارجية، ولوضع اي سعي لبناني للاستفادة من علاقات خارجية في تعارض مع علاقاته مع سورية. علماً أن المعلن من المطالب اللبنانية من الخارج يتقاطع، إن لم يتطابق، مع المواقف السورية. وفي هذا الإطار، تعرضت الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس ميشال سليمان للولايات المتحدة الى حملة تشكيك، قبل إجرائها وخلالها. وظهر هذا التشكيك على لسان قيادات في 8 آذار وفي الإعلام القريب من "حزب الله"، وحلفائه. واذ امتنعت دمشق عن تعليق علني عن الزيارة فإنها بتعاملها مع فرقاء لبنانيين وخصِّهم باستقبالات رسمية، فسَّرا موقفها على أنه رسالة الى الرئيس اللبناني. ومفاد هذه الرسالة أن ثمة محاورين لبنانيين لدمشق غير رئيس الدولة، وان العلاقة السورية - اللبنانية ستظل علاقة دولة سورية مع أطراف لبنانيين، كما كانت قبل تبادل التمثيل الديبلوماسي بين البلدين والذي يُفترض ان تمر علاقات البلدين عبره. ومن هنا، ربما، الحساسية المفرطة التي تثيرها تصريحات سليمان عن السيادة والاستقلال، حتى لو كان الهدف من هذه التصريحات الإشارة مباشرة او غير مباشرة الى إسرائيل. ومن هنا ايضاً "تلبيس" رئيس الجمهورية اللبنانية مواقف مضيفيه، خصوصاً لجهة تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بسيادة الدولة على كامل أراضيها، والتلميح بأن الهدف من ذلك استهداف سلاح "حزب الله". وذلك على رغم كون الرئيس اللبناني يعلن دائماً ان هذه المسألة داخلية وهي موضع الحوار الوطني. ولم يكن رئيس الحكومة الجديد سعد الحريري أفضل حالاً، مع كل ما قدمه من تنازلات في تشكيل الحكومة والبيان الوزاري. ففي الوقت الذي حدَّدت الأوساط الإعلامية المتأثرة بفريق 8 آذار موعد زيارته دمشق، خرجت مسألة الاستنابات القضائية في دمشق. وهي مسألة تستهدف رئيس الحكومة، من زاوية الانقسام اللبناني، نظراً الى شخصية محركها وعلاقاته، وتؤكد استمرار النظرة الشخصانية الى الرسميين اللبنانيين. لقد سعى الحريري الى ان يضع العلاقت اللبنانية - السورية في إطار العلاقة بين دولتين ذات سيادة، والى عزل هذه العلاقة عن القضية التي تهمُّه شخصياً، اي التحقيق في اغتيال والده. وربما هنا يكمن سبب استهدافه، اذ افترض ان علاقة طبيعية وجيدة وندية بين بيروتدمشق ممكنة، اذا لم تترافق مع علاقة خاصة ومباشرة بينه وبين دمشق، كما كان الحال مع والده الراحل الذي ظل فترة طويلة يضع علاقاته الخارجية في خدمة الديبلوماسية السورية. بكلام آخر، لا تزال النظرة السابقة الى لبنان هي نفسها، على رغم كل ما حصل على الصعيد الانسحاب العسكري السوري وتبادل التمثيل الديبلوماسي، و اكتمال نصاب المؤسسات اللبنانية والتوافق على تسييرها.