كانت رائحة البن القليل المتبقي في «برطمان» أحتفظ به منذ سنتين تداعب أنفي. كان هدية من علي القحطاني، وهو طالب يمني من صعدة، كان يدرس تحت إشرافي لنيل درجة الدكتوراه، وعندما قلت له إنني قرأتُ في كتب الجعرافيا أن اليمن مشهورة بالبُن الذي يزرعه أهلُها على الجبال المتدرجة، وعدني بأن يهديني ذلك البرطمان، وأوفى بوعده. أعشق القهوة على رغم أنها تسرع أحياناً من ضربات قلبي، وأحياناً تعطيني إحساساً بالجوع، ولكن في كثير من الأحيان كانت تمنحني السعادة، بخاصة لو كانت مسكرة ومحوجة بالحبَّهان. قرأتُ أن اليمنيين جلبوا بذور البُن من أثيوبيا والهند ونثروها على قمم الجبال فرواها الربُّ وضاعفها،وأنهم يطحنونها مع نبات القات لتزيد الشعور بالانتشاء. وظلت رائحة البُن، أياً كان مصدره، ترتبط عندي باليمن وتلميذي القحطاني الذي انقطعت عني أخباره في ظل التوتر الذي بات يسود أنحاء اليمن بسبب تمرد الحوثيين الذين يظهرون في قناة «الجزيرة» يحملون المدافع ويلقون بالبيانات والتحذيرات، من دون أن أفهم ماذا يريدون بهذه الحرب. تعرفت إليهم من خلال نشرات الأخبار التي لا تذيع غير الألم والمعاناة، وهذا ما كان يستفز زوجتي، فتقول وهي تضع لي فنجان القهوة: «لماذا تتابع نشرات الأخبار، وهي لا تجلب إلا الحزن والدمار والأهوال؟ هل تعشق العذاب؟». هل أعشق تعذيب نفسي؟ نعم، أحياناً، ربما أجد في ذلك متعة، ألستُ بشراً وجئت لأتعذب وأشقى في هذه الدنيا؟ * * * عندما عاد علي القحطاني، إلى القاهرة، بعد اندلاع الثورة ضد حكم علي عبدالله صالح، حمدتُ الله على أنه لم يصب بسوء. قابلني في حرم الكلية وهو يبتسم، وقال إنه جلب لي البن ومعه عسل جبلي. فرحتُ بالهدية، ولكن سرعان ما رفضتُها بأدب، فشعر بالحرج، ورجوتُه أن يتفهم موقفي. فقال: «صعدت أمي الجبل لتحصل على هذا البن من مزرعتنا وطحنته لك بنفسها وأوصتني أن أعطيك إياه، وأبي تعرض للدغ النحل ليجلب لك العسل». في الأخير قبلتُ الهدية، وأنا أتلفتُ حولي خائفاً من أن يراني رئيس القسم أو العميد فيتهمني بخرق قواعد اللياقة التي تحكم عمل أساتذة الجامعات. كان والدي يجلس في مدخل المنزل، فقلت له عن الهدية، فقال: «العسل فيه شفاء للناس، والبُن مفيد للتركيز وضبط الدماغ»، وطلب أن أعد له فنجان قهوة. قلت له: «لكنني أشعر بالحرج لأنني تلقيت تلك الهدية من أحد تلامذتي»، فقال: «أهل اليمن أولو بأس ومملكتهم عظيمة وسيدنا سليمان أحبَّ بلقيس وطلب من الجن أن يأتوه بعرشها. اعتبرها هدية سيدنا سليمان لك». كنت أتعجبُ من كلامه. كان لا يتحدث إلا بلغة القرآن وكل ما هو حكيم وفصيح. استمتع أبي القاضي المتقاعد بالقهوة، كان كلما رآني يطلب أن أعد له ولضيوفه القهوة من ذلك البُن الذي أهداني إياه القحطاني. ومنذ أن مات أبي، كنتُ كلما نظرتُ إلى هذا البرطمان أذكره وأترحم عليه، وأصبحت كلما جاء إلى الجامعة مبعوث يمني أسأله عن علي القحطاني الذي أصبح مدرساً في جامعة صنعاء. ومازلت كلما لمحتُ من شرفة منزلي هُدهداً، همستُ له بأمنية، فأراه يومئ برأسه كأنه يحييني، ثم يطير بعيداً، ربما نحو اليمن، ليجلب لي حفنة من البُن.