يعيد الإرهاب إنتاج نفسه على الساحة العالمية ويتفاوت أداء الدول في مكافحته بين نجاح جزئي وإخفاق موقت، واللافت ان أداء الدولة الأقوى عسكرياً لم يفلت من ذلك التفاوت في مكافحة هذه الظاهرة الشاذة عن الاجتماع الانساني، لا بل يشهد أداؤها نكوصاً يتجسد أحياناً في محاكاة مؤسفة لأساليب الإرهابيين في التسبب بمجازر وأعمال قتل جماعية تطاول ضحايا مدنيين أبرياء. في سبيلها لمحاربة «تسونامي» الإرهاب توسعت القوة العظمى في رد فعلها وغاصت في «مستنقعي» العراق وافغانستان، فيما يكاد الإرهابيون في مخابئهم يسخرون من الآلة الحربية الضخمة ويستفزونها لارتكاب مزيد من الأخطاء. ليست تلك صورة براقة للمشهد الدولي الراهن لكنها بلا شك مدعاة لمزيد من المحاولة لفهم الإرهاب ودوافعه، ليس من منطلق الانحياز في الحرب الدائرة بين الآلة العسكرية للأنظمة والإرهابيين المهووسين بالعنف بل رغبة في تلمس مخارج من دوامة القتل التي تطاول المجتمعات المدنية واستقرارها. ومن المحاولات المثيرة للاهتمام لتأطير مفهوم مكافحة الإرهاب، الرؤية التي قدمها كتاب «مكافحة الإرهاب – دور السعودية في الحرب على الإرهاب» لمؤلفه الاستاذ علي بن عواض عسيري سفير السعودية لدى لبنان حالياً، والذي أمضى ثماني سنوات سفيراً لبلاده في باكستان (2001-2009)، الدولة الواقعة بين الإرهاب والحرب عليه منذ هجمات «11 أيلول» في الولاياتالمتحدة. لا يخفي المؤلف في كتابه الصادر حديثاً عن دار «اوكسفورد» للنشر، استغرابه من ظاهرة «الاسلاموفوبيا» في بعض انحاء العالم الغربي والتي تحد من فاعلية جهود مكافحة الارهاب، وان كان عسيري يسهب في عرض طابع التسامح في الدين الإسلامي متوجهاً في كتابه الصادر بالإنكليزية الى الرأي العام الغربي الذي تقع شريحة منه أحياناً في خطأ الخلط بين الإرهاب والدين، او الاعتقاد ان غاية الإرهاب هي فرض مفهوم ديني على الآخر في حين ان الإرهابيين فئة منحرفة تتخذ الدين مطية لنزعات إجرامية او سياسية. أوحت عبارات استخدمها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش غداة اعتداءات 11 أيلول، مثل «الحملة الصليبية» وقوله: «من ليس معنا فهو ضدنا» بأن العالم يكاد ينقسم الى معسكرين او «فسطاطين» بحسب تعبير زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن ما دفع البعض الى التخوف من ان تكون الإنسانية مقبلة على «صراع حضارات»، قبل ان يتدخل «عراب» تلك النظرية صاموئيل هانتنغتون موضحاً في مقال في مجلة «نيوزويك» نهاية عام 2001، ان جذور مشكلة الإرهاب الدولي باسم الإسلام تنبع من دوافع سياسية بسبب الأزمات المستعصية عن الحل مثل قضية فلسطين، وتقدير المسلمين بأن الولاياتالمتحدة تتعمد اتباع معايير مزدوجة في التعامل مع تلك الأزمات. ويشدد عسيري على ان بعض مقولات هذا التفسير تجد صداها في نظرة المملكة العربية السعودية الى الإرهاب واستراتيجيتها في مكافحته، بل ان الرياض انطلقت في مبادرات في اتجاه الحوار بين الحضارات والأديان لقناعتها بأن القواسم المشتركة بين الناس هي اكثر من الخلافات التي تفرقهم والتي يستغلها الإرهابيون لإيجاد عصبية وكراهية ضد الآخرين. صحيح ان تاريخ العالم هو تاريخ الحروب، لكن «ليس هناك مثال واحد عبر التاريخ على ان مجموعة منظمة نجحت في تحقيق أهدافها السياسية عبر الإرهاب حصراً... فالإرهاب لم يكن قط استراتيجية سياسية فاعلة بحد ذاته»، بذلك يستبعد المؤلف جدوى الأعمال الإرهابية التي لا يجد أصلاً أرضية مشتركة بينها سوى «اجتماع (عاملي) جنون العظمة والتعصب عند قادة مجموعات صغيرة» تتقاسم مشاعر «الحقد والجهل والنزعة الى الأحكام المسبقة تجاه الآخرين»، ولا يتردد في إيراد مثل تيموثي ماكفاي مفجّر المبنى الفيديرالي في اوكلاهوما سيتي عام 1995، مخلفاً 168 قتيلاً ومئات الجرحى بين المدنيين على أمل إثارة انتفاضة ضد الحكومة الفيديرالية، داعياً الى تفوق العرق الأبيض. واذا كان اللجوء الى الإرهاب دليل ضعف وعجز، فإن الميل الى التبسيط لا يؤدي الى معالجة مشكلة الإرهاب المعقدة، فالقوة وحدها لا تكفي لمكافحته، ولا يكفي لفهمه تكرار القول إن الإرهابيين يأتون من بيئة فقيرة وإنهم عادة شباب في اعمار تراوح بين 16 و28 سنة، في حين ان بعض الذين تورطوا في الإرهاب هم حملة شهادات جامعية وبينهم نساء أيضاً. وفي محاولة لتفكيك مفهوم الارهاب ومعالجة مكوناته كل على حدة، ينطلق البحث في تقديم عرض ل «الإرهاب» عبر التاريخ منذ استخدم التعبير في أعقاب الثورة الفرنسية لتصفية معارضين سياسيين، مروراً بما عرف بحركات التحرر في اميركا اللاتينية وأعمال التطهير العرقي في البلقان، وصولاً الى 11 أيلول وما تلاها من غزو للعراق وأفغانستان. ويلاحظ الكاتب ان استخدام الإرهابيين للدين (بشكل منحرف) هو محاولة بائسة لتبرير مشروعية اعمالهم ضد آخرين ينتمون الى عرق او دين مختلف. يؤكد السفير عسيري استناداً الى تجربته وتخصصه ان لا دواء واحداً لداء الارهاب، وان لكل مجتمع خصائصه التي يجب النظر اليها خلال تحليل المشكلة ومعالجتها. ويورد عرضاً مفصلاً للاستراتيجية السعودية لمكافحة الإرهاب المبنية على ثلاثة أسس: الوقاية، والعلاج، والرعاية التي تستهدف إعادة دمج الشباب الذين وقعوا تحت تأثير أصحاب العقول المنحرفة في المجتمع بعد عملية إعادة تأهيل، من دون إغفال ضرورة تصحيح المفاهيم الخاطئة التي يروج لها هؤلاء. ويسجل عسيري نجاح الرياض في وضع قطار مكافحة الإرهاب على السكة الصحيحة وتقدمها في اتجاه مكافحة الإرهاب واجتثاث جذوره وإنهاء ذيوله، كما يسجل لاندونيسيا نجاحها في هذا المجال منذ اعتداءات بالي عام 2002 والتي أسفرت عن حوالى 200 قتيل معظمهم من السياح الأجانب الذين قصدوا هذا المنتجع السياحي. والى جانب «المقاربة الناعمة» للحرب على الإرهاب التي يدعو اليها في كتابه، لا يغفل عسيري ذكر التطور الذي طرأ على فكر بعض السلفيين الجهاديين، اذ يشير الى مراجعات «الدكتور فضل» أحد ابرز منظري الجماعة الإسلامية في مصر، والتي حرم فيها قتل الأبرياء واستهداف المجتمعات الآمنة، ويرى الكاتب في تلك المراجعات التي نشرت عام 2007، منحى مهماً في الحد من انتشار ظاهرة «التكفير» وهي في جانب منها من تداعيات الجهاد الأفغاني ضد السوفيات في ثمانينات القرن الماضي. ان تحول من كان يعرف ب «مقاتل من اجل الحرية» الى «إرهابي»، ظاهرة معقدة وعلاجها يقع على عاتق المجتمعات والحكومات، منفردة ومجتمعة، بعد تحليل أسباب الظاهرة بشكل مفصل، ووضعها في إطارها الصحيح وفي سياقها المناسب، مع الابتعاد عن التعميم والتبسيط. ظاهرة قد تستمر بعض الأوقات، لا يمكن إهمالها ولا تصوّر الانتهاء منها سريعاً، لكن من الضروري البدء في مكان ما وعلى أسس صحيحة. هذه أهم الاستنتاجات التي يخلص اليها الكتاب الذي لا يغني أي عرض عن قراءته.