حالة من الاستنفار شهدتها وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة في مصر عقب الأحداث الساخنة والمؤسفة التي تلت مباراة مصر والجزائر في الخرطوم، تمحور توجهها العام حول محاولة استعادة هيبة مصر باعتبارها الشقيقة الكبرى والدولة الرائدة في محيطها العربي. ومن ثم فإن ما حدث من اعتداءات من قبل مشجعي الجزائر تجاه المشجعين المصريين وما تلاه من وقائع مخجلة كحرق العلم المصري في شوارع مرسيليا وباريس لا يمكن أن ينال من هيبة مصر أو مكانتها. ولعل أبرز ما يلفت انتباه كاتب هذه السطور هو استدعاء الإعلام المصري معظم مفردات الخطاب القومي التي سادت مصر والعالم العربي في خمسينات وستينات القرن المنصرم، بشكل يذكرنا بخطاب إذاعة «صوت العرب» الشهيرة وما كانت تبثه من دعايات مؤازرة للنهج القومي وسياسات عبدالناصر والدور الريادي لمصر وقتها. وهو ما يشي من وجهة نظرنا المتواضعة بأن هناك ثمة دلالات سياسية يمكن استنتاجها في ضوء تلك المعالجة من قبل وسائل الإعلام المصرية، ولعل أولى هذه الدلالات تكمن في كشفها واحدة من أبرز المفارقات اللافتة في الخطاب السياسي والإعلامي المصري، ألا وهي الخلط المتعمد بين ما هو «تاريخي» وما هو «تاريخاني». فالخطاب السياسي والإعلامي المصري، يميل دائماً إلى استدعاء التاريخ في مواجهة الأزمات التي تطفو على سطح الواقع الآني، على رغم كون السياقات التي تفرضها الظروف الراهنة أو يفرضها الماضي القريب يمكن أن تخالف كلياً ثوابت هذا التاريخ البعيد نسبياً. فمفهوم «الشقيقة الكبرى الرائدة» الذي تبرزه وسائل الإعلام الآن كان يمكن ترديده في الخمسينات والستينات وقت أن كانت مصر قبلة للمد القومي وللعروبة. إلا أن الشرخ الذي حدث للعلاقات العربية في أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وعقد مصر صلحاً منفرداً مع إسرائيل الذي ازداد اتساعاً إبان حرب الخليج الثانية عام 1990 أدى إلى تآكل شرعية مفهوم الريادة المصرية خصوصاً، بل مفهوم القومية العربية ذاته عموماً. أما الدلالة الثانية لهذه المعالجة فتتمثل في تجاهل الإعلام المصري الانقسامات الحادة التي حدثت في أوساط النخبة السياسية والثقافية المصرية بشأن دور مصر في محيطها العربي والتي أنتجتها حال الاستقطاب الفكري والثقافي في أعقاب نكسة حزيران (يونيو) 1967 وبروز رؤى بديلة لمشروع النهضة المصري الذي طرحه الرئيس عبدالناصر، ما فجّر الجدل وأعاد طرح الأسئلة بشأن معظم القضايا الكبرى في سياسة مصر الخارجية بين التيارات الفكرية المختلفة للحركة الوطنية المصرية خصوصاً التيار العلماني بجناحيه الليبرالي والماركسي، والتيار الديني. إذ اتجه الأول إلى دمج مصر في منظومة الحداثة والعلمنة الغربية، واعتقد الثاني أن هذه الأمة لن تصلح إلا بما صلح به أولها. ومن ثم ناصب الغرب وثقافته الوافدة العداء ما انعكس بشكل مباشر على رؤى ومواقف تلك التيارات من معظم القضايا العربية، وعلى رأسها قضية الصراع العربي الإسرائيلي - محور دور مصر العربي عبر تاريخها - ناهيك عن ظهور ما عرف بتيار العزلة إبان عهد الرئيس السادات والذي تزعمه الناقد والمفكر الراحل لويس عوض الذي دعا إلى فكرة «فرعونية مصر» في محاولة منه لفصلها عن محيطها العربي، وهو ما عارضه القوميون العرب بشدة وقتها. ما يعني إجمالاً أن نهر المفاهيم الحاكمة العلاقات المصرية العربية جرت فيه مياه كثيرة وتجاذبته رؤى ومواقف تيارات سياسية وفكرية عدة متجاوزة خطاب الخمسينات والستينات. وهو ما يتجاهله الإعلام المصري بشكل واضح معيداً إنتاج النغمة المكررة نفسها كلما حدث خلاف بين مصر وبين أي من شقيقاتها. ولعل المفارقة المؤلمة حقاً تكمن في أن الإعلام المصري على رغم هذا التجاهل يستدعي ما يناسبه من رطانة تلك الرؤى والمواقف الأيديولوجية والفكرية المتناقضة في ما بينها لتبرير ما يراه صحيحاً من المواقف السياسية المصرية. فحين حدثت الحرب على غزة قام الإعلام المصري باستدعاء خطاب ثقافة السلام والواقعية السياسية وعزل مصر عن محيطها العربي، في مواجهة خطاب محور الممانعة العربية. وحين تطلب الأمر الآن استدعاء خطاب السيادة والريادة في مواجهة شغب الجماهير الجزائرية وتهجم إعلام الجزائر فعل ذلك وهو ما يعني أننا في المجمل أمام ممارسات إعلامية متناقضة وغير مهنية كرست رؤى شوفينية لدى المواطن المصري من شأنها تقزيم دور مصر في محيطها العربي والإقليمي بخاصة في ظل توسيع الإعلام المصري دائرةَ الاتهام بشأن ما حدث في الجزائر لتشمل قنوات فضائية ودولاً لم يكن لها ناقة أو جمل في تلك الأحداث. وهو أسلوب يتنافى مع المفهوم العقلاني والمنطقي للريادة ضمناً حتى وإن ادعى الدفاع عنها. فالدول الرائدة عادة ما تتمتع بفضيلة ممارسة النقد الذاتي وهو ما يميزها عن غيرها ويمكنها مراجعة مواقفها بشكل علمي ومنهجي بعيداً كل البعد عن خطاب التعصب وإفراز الكراهية الذي تبناه الإعلام المصري كرد فعل على ممارسات إعلامية جزائرية تتسم هي الأخرى بالقبلية والتعصب وضيق الأفق. ولعل قليلاً من الإنصاف يقتضي أن نشير إلى وجود صحف وفضائيات عربية سحبت بمهنيتها بساط الريادة من تحت أقدام الإعلام المصري، على رغم كونه أقدم إعلام في المنطقة العربية وأن هناك قوى عربية إقليمية تسعى بكل قوة للتمدد في أي فراغ يمكن أن تتركه مصر في محيطها العربي والإقليمي، وهو ما يستدعي بالضرورة هبة مصرية حقيقية تستعيد الريادة بالممارسة الفعلية والعمل الجاد الدؤوب على أرض الواقع بدلاً من الهروب إلى التاريخ، فالجغرافيا كما يقول الزعيم الفرنسي شارل ديغول هي العنصر الثابت في صناعة التاريخ. * كاتب مصري.